كيف تجاوز الكاتب سنوات الطيش الستالينية؟

الروائي التشيكي في دائرة الضوء مجدداً، مع صدور كتابه «لقاء»، بالفرنسيّة كالعادة، عن «دار غاليمار» الباريسيّة. يطرح صاحب «المزحة» قضايا جماليّة، ويزور تجارب إبداعيّة ومراجع فكريّة، على تماس مباشر ــــ أو غير مباشر ــــ مع عالمه الأدبي وذائقته الفنيّة... وبين الصفحات تندسّ بعض الوقفات السياسيّة

نوال العلي
غيّر كونديرا حياة أحدهم مرتين: مرّةً وهو يقرأه، ومرةً بعدما وضع كتابه جانباً وخرج. الكتابة عن ميلان أشبه بالخوض في مسألة عاطفيّة ومعرفيّة وجنسيّة وشيوعيّة. كلّ مرةٍ تفرغ من رواية، تصيرَ غرفةً غادرها الضيوف؛ لا بد من إعادة ترتيبك. المرأة التي كانت جميلة تخفي بطنها المترهّل طيلة الوقت، يعرّيها الرسّام ويبعد يديها المشدودتين عن تلك الثنية المعيبة، تكاد المرأة أن تُزهق الجنس قبل ولادته، كل ما هنالك أن سنتمترات من الجلد أفقدتها شيئاً من توازنها تلك اللحظة. هذا المشهد من رواية «الحياة هي في مكان آخر» لكونديرا، يقابله مشهد مماثل في «خفة الكائن التي لا تحتمل»: يفتح توماس الباب لتيريزا العاشقة القادمة إليه من مكان بعيد بلا مقدمات، ليكون أول ما يسمعه منها صوت معدتها الخالية أوف... موقف صعب فعلاً!
في «كتاب الضحك والنسيان»، يتهرّب العاشق من امرأة يحبّها، لأنّها بشعة، وهو يخجل من بشاعتها، لكنّه يستمر في حبها لسنواتٍ. وتامينا تجد نفسها امرأة راشدة في جزيرة كلها أطفال يغتصبونها. ثمة قصة قصيرة في مجموعته التي لفتت إليه الأنظار «غراميات مرحة» (1963)، تحدثت عن شاب يراقب المرأة التي يشتهيها وقد ذوت مع تقدم العمر وفقدت بريقها.
يضع كونديرا شخصياته دوماً في هذا الصراع الجمالي والنفسيّ الذي هو في أساسه صراع وجوديّ. نراه يجلب أكثر الشخصيات سذاجةً ويمارس عليها القسوة بسادية روائية، أو أكثر الشخصيات ذكاءً لتعذيبها في عالم من المتناقضات لا تستطيع معها شيئاً. حتى إن بعضها قد يعيش حياة فظيعة، ثم يموت فجأة في حادث سير.
رجال كونديرا متشابهون أيضاً: كم يشبه ميريك في «الضحك والنسيان» توماس في «خفة الكائن...»؟! كلاهما مثقف فقد وظيفته واضطهد من الحزب. وهما كأنهما جاروميل الشاب في بداياته المتحمّسة للحزب الشيوعي في «الحياة هي في مكان آخر». هذه الرواية عدّها فرانسوا ريكار «مع دون كيشوت ومدام بوفاري، العمل الأكثر قسوة الذي كتب ضدّ الشعر».
هجاء الشعر وشاعره مارسه كونديرا (1929) قبلاً. يقول صاحب «أيار الأخير» (1961) في إحدى قصائده «مهما كان الذي يغنّيه الشاعر/ فهو يغني عن نفسه/ الشاعر الذي لم يكن مخلصاً/ لديه ديدان في شعره». ومن قصيدة أخرى: «عن السلام بشكل عام/ عن العمل بشكل عام/ عن الحزب بشكل عام/ يا شاعر، كفّ عن العموميات/ احك عن الناس». وهكذا كان، ترك كونديرا شعره وذهب ليحكي عن البشر. مثلما ترك الحزب الشيوعي بعدما كان ممن

يضع شخصيّاته في صراع جمالي ونفسيّ، تعبيراً عن مأزق وجوديّ
أسسوا للوجود السوفياتي في أوطانهم، منذ بداية اجتياح الشيوعية لتشيكوسلوفاكيا عام 1948. لكنّ فشل أدبه في تمثيل الواقعية الاشتراكية، ونزوع ذلك الشاب التشيكي نحو الفرد في مواجهة الجماعة، سبّبا طرده من الحزب عام 1968، وخصوصاً بعدما لُقِّب بـ«ملهم الفوضى». بعد أحداث «ربيع براغ»، نقل كونديرا من عمله محاضراً في «أكاديمية براغ للفنون التمثيلية» ومُنعت أعماله. وكان قد أصدر يومها ثلاث مجموعات شعرية ومقالات، إضافة إلى كتابته للدراما.
في خريف 1968، صدرت روايته الأولى «المزحة» التي قدّم لها الشاعر الفرنسي أراغون كرواية سياسية. فيما قال صاحبها «إنّها قصة حب». وفي 1975، غادر كونديرا إلى فرنسا بعدما سحبت منه هويته التشيكية، فصار فرنسياً، يكتب بالفرنسية أيضاً. وفي العام عينه، صدرت «خفة الكائن التي لا تحتمل» لتجعل منه حديثاً. وفي دراسة طويلة لجان كوليك بعنوان «رجل، حديقة واسعة: ميلان كونديرا شاباً ستالينياً»، يكتب هذا الباحث في جامعة غلاسكو أنّ «ندم كونديرا على أنه كان شاباً غبياً بما يكفي ليدعم الشيوعية الستالينية، قاده إلى تطوير نظرية عن الإدراك الإنساني المستضعف، ونظرية متعلقة بالنتائج غير المتوقعة، والمنبثقة عن أعمال أفلتت وخرجت عن سيطرة مرتكبيها، كمثال على ذلك القمع السرّي الذي تمارسه السلطة ضد الأفراد. المسألة تعاد معالجتها في أعمال كونديرا كلها تقريباً». ويبدو أنّ هذه القضية تركت ألماً يزيد على «ألم الجهل» الذي تحدّث عنه في روايته «الجهل» («ألم الجهل» هو الترجمة الحرفية لكلمة «حنين» بالتشيكية). السنوات التي قضاها في باريس لم تنته بالعودة مثل الحكايات العظيمة. في 2007، قَبل «الجائزة الوطنية للأدب التشيكي»، لكنّه رفض الذهاب إلى براغ. هكذا، اتخذ موقفاً رافضاً من وطنه/ المكان، جاعلاً منه بطلاً في رواية فقط. رفض طيلة سنوات حياته في باريس أن يقابل الصحافة التشيكية، أن يزور براغ، أن يطبع «خفة الكائن» فيها حتى 2006... كذلك رفض ترجمة أدبه إلى التشيكية.
كان كونديرا يرى حماسته المبكرة للشيوعية الستالينيّة أمراً محرجاً. وبعدما نال جائزة الأدب الماركسي عن «فن الرواية» الصادر سنة 1960، أصدر عام 1986 كتاباً آخر يحمل الاسم نفسه وبمقالات أخرى، كأنه يريد محو الكتاب الأوّل من الوجود... أو كأنه يعمل ضد فكرته نفسها التي وردت في أعماله، فيخسر في صراع الذاكرة ضد النسيان. رغم ذلك، كل من يقرأ كونديرا يتذكّر تفصيلاً من نفسه: هذا الكاتب يترك الحياة تتحدّث إلينا، يذكّرنا بأنها تريد أن تقول لنا شيئاً.