في رحلاته، سجَّل الشاعر التونسي العالم من المنطقة الأقرب إلى القلب. في الكتاب الذي نشرته «دار السويدي» حديثاً، بعدما حاز «جائزة ابن بطوطة»، يرسم بورتريهات سياسية لأماكن زارها، من الاسكندريّة إلى بغداد، مروراً ببسكنتا والقسنطينة...
نجوان درويش
إذا كنت تعرف خالد النجار فلا بدَّ من أن تتداخل نصوص كتابه الجديد مع صورته، وهو يتحدث مستعملاً كلَّ جسده، كأنَّه سنبلة متمرِّدة مزهوّة بلحظات وجودها. في «غبار القارات» («دار السويدي» ـــــ الإمارات)، يكاد هذا التروبادور والمثقف، الفوضوي والملتزم في آن واحد، يخرج من بين سطور رحلاته. تكاد تسمع صوته منتشياً بمتعة السرد والإقبال المطلق على الحياة. مرح وسخرية عميقة هادئة ونزوع دائم للتحليل والتقاط المفارقات؛ وخلف كلّ ذلك تاريخ من المكابدات المعرفية والقلق الوجودي ومعاكسة التيار ومخالفة السلطة. هنا تشعر بأنَّك أمام غبار كائن يصعب جمعه أو اختصاره في توصيف.
يسجِّل الشاعر والمترجم التونسي رحلاته في أربع قارات، مع التأمُّلات والأفكار التي يستدعيها جدل الذات والأمكنة. «حسٌّ أممي حقيقي لشخصية أدبية فوضوية بصفاء، تلتقط العالم من المنطقة الأقرب للقلب»، بحسب توصيف لجنة «جائزة ابن بطوطة للكتاب» التي منحته «جائزة ابن بطوطة في الرحلة المعاصرة». في «غبار القارات»، تتصل الحضارات وتمتزج الحكايات والأسماء وتتداخل مع التأملات والثقافة المنفتحة المتنوّعة وذلك الافتتان بالعالم الكلاسيكي وتلك الرؤية الشعرية للعالم. في الكتاب نوع من الإنصاف للقرن التاسع عشر ورصد لجوانب الخراب الحضاري التي أنتجتها «ثورات» و«إصلاحات» القرن العشرين في المنطقة العربية، ولا سيَّما من طبقة العسكر.

بورتريه قاسٍ لمصر في زمن السادات
في القسم الأول «الرحلة شرقاً»، رحلة إلى مصر (القاهرة والإسكندرية) وأخرى إلى الجزائر (العاصمة والقسنطينة). و«زيارات خاطفة» إلى بسكنتا في لبنان بحثاً عن ناسكها ميخائيل نعيمة، وبغداد (إيثاكا أخرى) وأثينا ريتسوس. «أثينا كما تقول ريتا عن روما مقترنة برائحة المازوت التي تلقاك في مدن المتوسّط... مرتبطة برائحة ورود قبرص التي تهبّ عليك في موجة لا مرئيّة، وأنت تعبر أحد الشوارع... قبلها كانت اليونان مرتبطة في ذهني بشاعريَّة العالم الكلاسيكي، وأساطيره».
إنكار راهن أثينا يبلغ مداه: «أمّا هذه اليونان الحديثة المسيحيّة ففيها شيء من الجهامة، جهامة الكنيسة الأرثوذكسيّة... لقد نأت عن ماضيها البطولي، الملحمي، الوثني... ابتعدت عن ينابيعها. وعادت التماثيل والمعابد حجراً؛ ماتت الآلهة.. وكل ما كان تحوّل إلى ذكرى مريرة تلقاك في أشعار قسطنطين كفافيس»...
وتحت عنوان «إثباتاتُ شاهد عيان في قاهرة هذا الزَّمان»، يقدِّم بورتريه لمصر في زمن السادات. ورغم ولع الكاتب بالتحليلات السوسيولوجية ــــ التي لا تغيب عنها أطياف صديقه عالم الاجتماع الفلسطيني الراحل هشام شرابي ــــ يترك في شهادته عن مصر الكلام للوقائع والمشاهدات. ريبورتاج مصوّر لمدينة أصبحت «غابة من الإعلانات عن السجائر والسلع الأميركية» ومجتمع يتخبّط في «الانفتاح». شهادة قاسية لكنَّها صادرة عن محب للثقافة المصرية. «إن استسلام السادات أشدُّ الحروب فتكاً بالمصريين!»
يصل إلى هذه النتيجة وهو يتفحص قاهرة أخرى لا يكاد يعرفها. كأنَّ النكتة السمجة (أو النبوءة) التي سمعها في مطار عمَّان تتحقق. هناك، سأله رجل عن وجهته فرد النجار: «إلى مصر». ضحك الرجل وقال له: «ليس فيها مكان خال» وحين سأله النجار بشيء من التعجب: «لماذا؟» أجابه الرجل بعجلة مَن ينهي دعابةً: «لأنها مليئة بالصهاينة».
ما بدا للنجار نكتةً سمجةً ابتلعها بصعوبة تحوّل إلى ما يشبه الكابوس، وهو يرى الإسرائيليين يسبقونه إلى كل مكان يذهب إليه في القاهرة. «لكنَّ السادات ليس كل مصر. هناك أسس ومعطيات تاريخية وتراثية وحضارية، وتجربة دموية قاسية مع العدو الصهيوني من المستحيل اختراقها. أنا لا أستطيع أن أصدق، أو قل لا أريد أن أصدق أنَّ رجلاً مثل نجيب محفوظ أو توفيق الحكيم أو صلاح عبد الصبور أو... ممن هم في موقع السلطة والقرار الإداري اليوم ـــــ يتحوَّل بعد عداء تاريخي وثقافي طويل، بعد أربع حروب معلنة غير حرب الاستنزاف والحروب النفسية، بعد أربع حروب بكل ما فيها من موت ودمار وتحطيم معنوي أن يتحول ـــــ وببساطة كابوسية مذهلة ـــ إلى صديق متعاون مع الإسرائيليين! بهذا التصوّر ذهبت إلى القاهرة وبهذا التصور لم أستسغ تلك المزحة التي سمعتها من ذلك الرجل في كافيتيريا مطار عمَّان في ذلك الضحى الربيعي، لكنَّ الأحداث لم تلبث أن تتالت بعد ذلك بغزارة شديدة عجزت معها عن استيعابها».
الصهاينة كانوا كأنهم يسبقونه إلى كل مكان يقصده: الإدارات الثقافية والمتاحف والجوامع التاريخية، وحتى إلى مكتب نجيب محفوظ. فبعد أن يجري موعداً للقاء صحافي مع محفوظ ويذهب إليه في مكتبه في جريدة «الأهرام» تبعاً لموعد حدِّد مسبّقاً، ينكر محفوظ تحديده للقاء في تلك الساعة.
في القسم الثاني «الرحلة غرباً»، نجد فصلاً أخّاذاً عن «عزلات كوكناوغا» قرية الهنود الحمر قرب مونتريال (كندا)، وآخر عن إقامة الشاعر مترجماً في يوتوبيا مدينة آرل، وثالث عن رحلة إلى نيويورك. القسم الثالث «دفتر يوميات» فيه شذرات من حياة وأسفار يختمها بنص عن رجل حقيقي وافتراضي يسمّيه بيار فوكييه. يبدو النص مرثاة هادئة (هدوء الثلج وهو يدفن مدينة) للقرن العشرين، أحلامه وأوهامه وإيديولوجياته.