يريد الشاعر السوري كتابه دفتراً متجوّلاً. هكذا تحوّل «بريد الغرباء، كلمات وصور» إلى مخزنٍ لذاكرة مستحدثة مستسلمة لممحاة الألم
حسين السكاف
«هذا الكتابُ يشبهُ دفتراً صغيراً يحمله، أينما ذهب، كاتبٌ متجوّل. فيه تسجيلٌ لما يجري، تعليقٌ على ما يجري، وثمة محاولة رسمٍ بالكلمات، لوجهِ أشخاصٍ يُرفرفون على أفاريز حياتهم، في ظلال غابتنا العظمى، التي هي الحياة». هكذا يعرّف عادل محمود كتابه «بريد الغرباء، كلمات وصور» (الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008). يفتتح الكاتب والشاعر السوري عمله بعبارة تقود القارئ إلى استحضار شخصيات أدبية وفنية عربية، منها الكاتب نفسه: «الخسارة... هي محنة من رَبِح نفسه».
«بريد الغرباء» كتاب مليء بالمرارة والحب وصور الغياب. مرارة الهزيمة وموت المثقف، الحروب والاحتلالات وصور مدن تتهدم أمام أنظار أبنائها: «بغداد... شخص عملاق ذاهب إلى مصيره... بغداد كربلاء عصر عربي وستغدو ذاكرة تتّهم الجميع!».
في صورة أخرى نتلمّس جرحاً نازفاً منذ أكثر من ستين عاماً. «نعرف أن جنود الاحتلال لا يأتون بآلات الموسيقى ليحتلّوا أرضاً أو يقتلوا بشراً. لكنَّ للإسرائيليين مزايا العزف على الجثث الطرية وهم يبتسمون ويغنّون». وكما كان للمدن حصتها، كان للحاضر الغائب حصته أيضاً في الحب والذكرى: «هنا في هذا الدفتر الصغير، أشخاص افتراضيون، أتوجه إليهم برسائِلَ افتراضيةٍ أيضاً. إنّهم غرباؤنا، في شكل ما، ونحن غرباؤهم أيضاً، وما بيننا بريد... غرباء».

شاعر أخذته الصحافة أكثر من ٣٠ عاماً
إلَّا أنّ أشخاص عادل محمود ليسوا افتراضيين تماماً، بل فيهم من ترك أثراً بليغاً على جسد الفن والثقافة العربية: صلحي الوادي، عبد القادر أرناؤوط، حيدر حيدر، محمد حسنين هيكل، رسول حمزاتوف، وذلك الموسيقي الذي خاطب وجعه: «لقد رحلوا وبقي الجنوب. أيها الرجل الذي أحببناه في كلِّ أغانيه... يا فيلمون وهبة العظيم». بهذه العبارة ختم عادل محمود ورقة خصّصها للموسيقي اللبناني الذي رحل وهو يحمل معه آلام وطن محتل.
وما إن ينتقل القارئ بين صفحات «الدفتر» حتّى يتلمّس مداعبة أدبية لروح شهيد قرأناه مرات ومرات: «أحدهم قرر ألا يكتب رسالةَ غرام إلى أية امرأة بعد أن رأى رسائل غسان كنفاني الفلسطيني منشورة، ثم لم يَرَ رسائل الطرف الآخر... غادة السمّان».
صحيح أن الكتاب يحتوي على مجموعة مقالات عمدت إلى اقتحام أغلب زوايا الوجع العربي ـــــ الثقافي والسياسي والفني وحتى التاريخي الأشد إيلاماً ـــــ إلَّا أنَّ ثمَّة خاصيّة مهمّة يكتنفها الكتاب ترتكز على خلفية المؤلف الشعرية، إذ نلحظ تلاعباً لذيذاً بلغة شعرية اقتربت من عالم القصة القصيرة. المقالات جميعها ترتبط بحبل القصة الذي يضفي سلاسة وحضوراً لأسلوب كتابي خاص. قصص تتناول أحياناً جوانب أو مواقف من حياة الكتّاب والفنانين، أصدقاء المؤلف، وأحياناً أخرى تظهر سخرية مريرة: «وتعال أيضاً لكي نُحصيَ معاً عدد الليرات الذهبية التي لم نحصل عليها. ونُعلّق على رقابِ ماعِزنا أوسمةَ الهباء التي حصلنا عليها في الشّعر والموسيقى والغناء والرواية واختراعات اليائسين».
هكذا يدعونا الشاعر عادل محمود كي نحصي شظايا آمالنا وهي تتكسر على أرض المصالح والتهميش، لينتقل إلى السخرية الأطول عمراً: «أمنية حياتنا أن نرى «العدو» ذات يوم يرتجف خوفاً من اجتماع الرؤساء والملوك والأمراء العرب». لكن ثمة أمنيات ناءت بها الورقة لثقل واقعيتها ووجعها المرير: «العرب في الضفة الشرعية للصلاة لا ينظرون إلى ما فوق رؤوسهم ليروا قمراً إسرائيلياً معلّقاً فوق النوافذ، بل يشرئبّون إلى السماء للطلب إلى الله أن يعينهم دون أن يفعلوا شيئاً في حقل الإرادة البشرية التي أعطيت كجزء من عقل العالم الغامض الواضح».
حين يصل القارئ إلى فصل الكتاب الأخير «كلمات» يتيقّن أنه كان يبحر بأفكار شاعر أخذت الصحافة من حياته أكثر من ثلاثين عاماً. في «كلمات» الذي يفتتحه بمقولة «الزبيب عنبٌ تعرضَ للإهانة. النبيذ عنبٌ شهيدُ لأجلِ الشعراء»، يخصص عادل محمود أكثر من 25 صفحة لقصائد لا تبتعد كثيراً بفكرتها عن الأفكار التي طرحتها مقالات الكتاب، قصائد تقترب من القارئ ليتحد بهَمِّ الأمنيات الضائعة ولملمة شظايا الذاكرة. «في هذا الدفتر الصغير، شيءٌ مشتركٌ بيننا، كاتبهُ وقارئهُ، هو الذاكرة المستحدثة، التي لفرط ما اختزنت، غَدَتْ مع الأيام، ممحاةً، لتكسير خطوط الألم، حيث ينتظرنا الألمُ، أكثر مِنَ الأمل، في كمين محكم!»