مثّل مفترق طرق في فهم الشعر العذري وفكّك علاقة اللغة بالحبّ والجنس. «سوسيولوجيا الغزل العربي» الذي صدر عام 1974 بالفرنسية، عاد إلى المكتبة العربية للمرة الثالثة بجهد المؤلف
نوال العلي
عاد الكتاب «سوسيولوجيا الغزل العربي» بنسخة جديدة (المنظمة العربية للترجمة)، وبترجمة مؤلفه هذه المرّة. أستاذ الاجتماع الطاهر لبيب ورئيس «المنظمة العربية للترجمة» يضع مقدّمة إشكالية عن علاقة المؤلف بنصّيه: الأصلي والمترجم، بعدما نُقل هذا الكتاب ثلاث مرات إلى العربية. في مقدّمة العمل، نلمح لبيب كاتباً ومفكراً بأسئلة حرجة جداً عن الترجمة، وقد استشعر علاقة ملتبسة مع نصّه الأصل، وفتح باب القلق. إذ يثبّت بهذه الترجمة نصّه الأصليّ في وضعه النهائي. أيّ لبسٍ هذه المرة لن يكون مسموحاً. يبيّن لبيب «قد يطمئن مترجم نصّه إلى ما يراه معرفةً به، وهو اطمئنان لا يحصل له إلا في لحظة غفلة منه عن المسافة التي أصبحت تفصله عنه...».
أحدث «سوسيولوجيا الغزل العربي» لدى صدوره بالفرنسية عام 1974، فرقاً في النظر إلى تراث الشعر العذري. المستشرق أندريه ميكال وضع مقدّمةً للكتاب، وكثيراً ما استشهد به الناقد الفرنسي رولان بارت في مؤلفاته. أما عالم الاجتماع لوسيان غولدمان فكان هو مَن دفع لبيب إلى البحث في الحبّ في المجتمع العربي. يقول ميكال في المقدمة «إنّ كل الذين يتساءلون: كيف ولماذا نشأ «الحب المجنون» بغرائبه، في الجزيرة العربية، قبل أن يولد في أوروبا؟ يجدون في كتاب الطاهر لبيب مفاتيح ضرورية للإجابة عن تساؤلاتهم». وإن كان بعضهم قد أخذ، عن غير دقّة، على لبيب استناده إلى المراجع الغربية الاستشراقية فقط، فتكفي مراجعة الكتاب لنرى تعدّد المصادر العربية والغربية من جورج هنري بوسكيه، أو تور أندريه وحتى التوحيدي والسرّاج وابن قيّم الجوزيّة.

اللغة الجنسيّة حرّرت المرأة في العصر الأموي
ورغم أن مؤلفات كثيرة بحثت في مسألة الكتاب نفسها، بمعنى تقديم دراسة سوسيولوجية للحب والجنس وعلاقتهما باللغة في المجتمع العربي في القرن التاسع الهجري، من خلال الشعر العذري نموذجاً... ظلّ كتاب لبيب صاحب الحظوة في هذا المجال. ربما لأنّه يذهب إلى لقاء شخصيّ مع النصوص وشعرائها، ربما لأنّ فيه ذرة الجنون التي حافظ عليها لبيب في طريقة تفكيكه للمجتمع والحياة وممارسة الكتابة. أو ربما لأنّه جعل من النص بساطاً طائراً، «يفسّر النص رجوعاً إليه، مما يعني أنّ على النص أن يتكيّف مع ما يكون أمكن العثور عليه، نتيجة المطابقة القسرية، من أخبار مشكوك فيها ومن روايات ملفّقة ونوادر تحكي عن صاحبه: تاريخ الميلاد ومكانه، والحالة المدنيّة... والمغامرة في الحبّ الشقي». هذا الذهاب والإياب بين الشاعر ونصه يتمّان انطلاقاً من اعتبار العمل الشعري نتاج ذات فرديّة.
جاء عمل لبيب الوحيد في أربعة أبواب. تناول الأول المادة الأولى من حيث علاقة اللسان العربي بالجنسانية، والثاني الثبات والصيرورة في الشعر، ثمّ العالم العذري، وفيه فصل لافت عن عقيدة التوحيد والحبيبة الواحدة وتناول الرابع المجموعة العذريّة.
ولأنّنا في مقام الحديث عن الشعر، فقد ربط الموروث العربي بين اللسان والفرج في أكثر من موضع. ها هو الجاحظ يورد أنّ «من حفظ لسانه وفرجه أمن شرور الزمان» وفي آية قرآنية «إني نذرت للرحمن صوماً، فلن أكلّم اليوم إنسيّاً»، فالصيام ليس عن المأكل والجنس فقط بل الكلام أيضاً. وها هو لبيب يناقش كيف أن الجنسانيّة تكتفي في مستوى التعبير عند بعض المجتمعات بما ينتمي للحركة والإشارة، لكنها عند العرب كلام. لنر كيف أثرت اللغة الجنسيّة في تحرير المرأة، نسبياً، في بعض أوساط العصر الأموي، كما يرى لبيب. فقد سهّل تجنيس اللغة الاتصال بين الرجل والمرأة، فكان «الكلام يقوم مقام صاحبه. وكثيرة هي الروايات التي تستسلم فيها المرأة، ذات النسب، للإغراء الجنسي أو لما يقاربه، لا استسلاماً للشاعر بل لشعره». كان الكلام قادراً على تعرية المرأة.
في موضع آخر، يناقش لبيب أصول قبيلة بني عذرة: هل هم من البدو، وهل هم الذين ينتمي إليهم أغلب الشعراء العذريّين الذي تحوّلت شخصياتهم إلى سرديات؟ يشير الباحث إلى صعوبة تحقيق المعلومة التاريخية التي فيها الكثير من التناقض، بالإضافة إلى تلوّن مفهوم البداوة. ويخلص إلى أنّ عذرة قبيلة شبه مستقرّة هامشيّة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، هذه الهامشيّة أدّت إلى التجنيح في العاطفة العذرية، ولجأت ذهنياً إلى موقف اللامبالاة تجاه ما يجري خارج عالمها الخاص. شابه حبّ العذريين حياتهم، فيما كان حب الشاعر المحارب قبلهم، هجومياً انتهاكياً جاهلياً مباغتاً.
ويذهب لبيب إلى وجود ازدواجية في جسد المرأة في الشعر العذري. التماس بين الحبيبن يكون في النصف الأعلى من الجسد. أمّا بقية الجسد فالجماع هو المدخل إليه. ويبدو أن هذا التقسيم له أصل في العرف الجاهلي. يقول ابن قيّم الجوزية «زعم بعضهم أنّه كان يشترط بين العشيقة والعاشق أن يكون له من نصفها الأعلى إلى سرّتها، ينال منها ما يشاء من ضمّ وتقبيل ورشف، والنصف الأسفل يحرم عليه». من هذا، يخلص لبيب إلى أنّ ذلك يبعدنا عن معنى الورع، في اللسان والدين، فالورع لا ينحصر في رفض الجماع. وهذا كافٍ لإبعاد العذريّين عن «الحب الأفلاطوني الذي يكثر ردّهم إلى مثاليته».