فيلم عن معاناة الناس في فلسطين التاريخيّةحيفا ــ غالب كيوان
علي نصّار الفلسطيني ابن قرية عرابة في الجليل، قدّم للسينما الفلسطينية ثلاثة أفلام، قبل شريطه الجديد «جمر الحكاية» الذي لم يعرض حتى الآن في الصالات الإسرائيلية، رغم فوزه بجوائز عدة... كونه أول شريط يجسّد الواقع السياسي المعاصر لفلسطينيّي 48.
لا شك في أنّ أبرز أفلام نصّار هي «درب التبانات» (بطولة النجم السينمائي محمد بكري). لكنّ المخرج الذي اقتبس «جمر الحكاية» عن رواية «المفقود 2000» للكاتب سهيلكيوان، استصعب هذه المرة تجسيد الرواية سينمائياً، واستغرق تحقيق المشروع خمسة أعوام. وبعدما عُرض الشريط في «مهرجان الأفلام» في حيفا تحت اسم «في انتظار صلاح الدين»، أعاد المخرج تصوير عشرات المشاهد، إضافة إلى مشاهد طبيعية من مختلف أرجاء فلسطين، بعد حصوله على دعم مادي جديد من صناديق أوروبية. وها هو يُقدّمه مجدداً في عرض احتفالي أقيم أخيراً في قاعة «مركز محمود درويش الثقافي» في الناصرة، لكن هذه المرة بعد تعديل جذري أجراه على الشريط الذي صار عنوانه «جمر الحكاية»Whispering Embers.
يتناول العمل قصة شاب ينخرط في الحزب الشيوعي، ويعيش علاقة غرامية مثيرة، فيما العالم يتداعى من حوله. ثمّ يتزوج من قريبة له، لكن العلاقة القديمة تبقى مؤثرة في حياته. وبين ليلة وضحاها، تتحول أحداث الفيلم لتجسّد مرحلة «فقدان الأمل»، وهي فترة انهيار الاتحاد السوفياتي التي تعتبر مرحلة مهمّة في حياة فلسطينيي الداخل الذين كان يؤمنون ـــــ في أغلبيتهم ـــــ بأنّ الفكر الاشتراكي هو طريقهم إلى التحرر. عند هذا التحوّل، ينخرط البطل (محمود أبو جازي حاز جائزة أفضل ممثل عن هذا الدور في «مهرجان فالنسيا») في جماعة إسلامية متشددة، وتبلغ الأحداث ذروتها بعدما يتحول إلى «المفقود رقم 2000» الذي يسعى إلى تحرير تلّ أبيب!

بطل الرواية يطلب من زوجته الانتساب إلى الحزب في ليلة الدخلة
الأفلام المقتبسة عن أعمال أدبيّة، تحمل دائماً نوعاً من الخطيئة الأصليّة، في علاقتها بالمرجع الأساسي ووفائها له. وقد استغرق المخرج سنوات، محاولاً نقل رواية سهيل كيوان إلى الشاشة. فصاحب «درب التبانات» أخذ على عاتقه تجسيد رواية تتحدث عن حقبة سياسيّة معاصرة، ولا تركّز على الحواجز الإسرائيلية وسائر المفردات الراهنة التي تحفل بها الأعمال التي تدور حول معاناة الفلسطينيين. ورغم النجاح النسبي الذي حقّقه ناقل الرواية إلى الشاشة، إلا أنّ «المفقود 2000» تبقي القارئ مع أسئلة عديدة ومبهمة حول البطل ومساره من الشيوعية إلى الخيار الديني الراديكالي... الكاتب يجسّد انهيار الاتحاد السوفياتي باقتضاب، على لسان سكرتير منطقة الجليل للحزب الشيوعي الذي يقول له: «ضللنا وضللنا». لكنّ نصار أعاد بطله ـــــ في نهاية الشريط ـــــ إلى الحزب ورفاقه القدامى، فخان العمل الأصلي الذي يصوّر الواقع بطريقة أكثر تركيباً وتعقيداً.
نصّار الذي مثّل أيضاً في الفيلم، حاول أن يقدّم البطل على أنّه صلاح الدين الأيوبي، من خلال معارك «هذيانية» يخوضها مع ريتشارد قلب الأسد أو الصليبيين. معارك الفيلم صُوِّرت، بطريقة مميزة، ما يدور في ذهن البطل مع تلاشي هيمنة الفكر الاشتراكي، وصعود الفكر الإسلامي الذي حل مكانه كفترة انتقالية لبضع سنوات... إلا أنّ رواية كيوان أظهرت البطل في منامه راكباً حصاناً أبيض يدخل إلى تل أبيب، وهي الفترة التي شهدت تفجيرات يومية في الحافلات الإسرائيلية. ثم يختفي بطل الرواية لتبدأ زوجته (نسرين فاعور) بالبحث عن «المفقود رقم 2000».
اختار نصّار حذف مشهد البطل على جواده كأنّه يفتح تلّ أبيب، وأظهر الجماعة المتشددة بطريقة صوفية. في الرواية الأمر مختلف: إذ يدخل البطل في هذيان يشبه تأثير الهيرويين. كل تهويمات هذا المقاوم الفلسطيني الذي لا يرضخ، ويسعى إلى تغيير الواقع، أرادها الكاتب نوعاً من العلاج، أو التطهّر من ترسبات وإحباطات ومشاكل عقيمة... هذا البعد لم نجده في فيلم نصار الذي يفتقر إلى ثقل الرواية وزخمها.
هناك مسافة في الرؤيا بين المخرج والكاتب الذي استوحى منه العمل. البطل العائد إلى رفاقه وحزبه في الفيلم، نراه في الرواية عائداً إلى منزله بعد الإحباط، ثم ينتقل لفترة إلى الفكر الإسلامي الجهادي، وأخيراً يعود إلى زوجته ليصبح «لا هنا ولا هناك». وعبر هذه المسيرة، يقول لنا الكاتب كفانا تعصباً لأية فكرة كانت سواء اشتراكية أو دينية، فلنبن منظومة إنسانية تتلاءم مع ثقافتنا وحضارتنا تمزج بين الفكر الاشتراكي والموروث الديني والقومي...
كذلك فإن الرواية التي كتبت بطريقة ساخرة، تصوّر البطل الشيوعي يطلب في ليلة الدخلة من عروسه الانتساب إلى الحزب الشيوعي! هذا هو سهيل كيوان الذي يسخر من مجتمعه، مازجاً بين الشيوعي المتحرر المتعصب لأيديولوجيته، والإسلامي المؤمِن بأنّه المهدي المنتظر!
وبمعزل عن إشكاليّة الاقتباس، والشرخ بين العمل الأدبي ورديفه السينمائي، يبقى السؤال الأهم: لماذا لم يجد علي نصّار صالة واحدة في «إسرائيل» تقبل بعرض الفيلم الذي يصوّر مرحلة مهمّة من تاريخ فلسطينيي الـ ٤٨ ومعاناتهم؟