معرض ليوميّاته الفوتوغرافيّة في الذكرى الثالثة للعدواننوال العلي
تلقّى فؤاد الخوري اتصالاً هاتفياً. تلقّيت اتصالاً مثله ذات يوم. كلنا تلقّينا مكالمة مماثلة، أو ربما تلقّى آخرون مكالمتنا نحن. في 17 تمّوز (يوليو) 2006، كانت الغارات الإسرائيليّة مستعرة منذ أيام في بيروت والجنوب، حين تلقّى الفنّان الفوتوغرافي اتّصالاً من «ش» في الإسكندريّة. قالت له إنّ كل شيء بينهما انتهى. كنتُ وقتها في عمّان مع رفاقي، وكانت عيوننا مسمّرة على الشاشات، كنّا عشّاق بيروت نتابع الحرب عليها ولا نستطيع التنفّس. نكاد نموت كأنّ عزيزاً يفارقنا إلى غير رجعة. كل ذلك يتهاوى أمامي الآن، وأنا أفكر في بيروت وقد تحوّلت هذه اللحظة إلى فؤاد الخوري. وحين تُستعاد مشاهد القصف، لا أستطيع التفكير في شيء آخر سوى أنّ فؤاد كانت «حالته حالة».
أشاهد صور الخوري وأفكر في أنّه متلصّص كبير. يستنطق كل شيء في لحظات يُشلّ فيها تفكير المرء؛ وقد وقع بين حجري رحى: العدوّ والحبيبة. لم يكن ممكناً الانتظار حتى العودة إلى المكتب، ومباشرة مقال عن معرض «عن الحرب والحبّ» الذي تستضيفة «غاليري كتّانة» أخيراً في بيروت بعدما جال العالم. أخرجت الـ «لابتوب» وجلست على أرض الغاليري، حيث 33 صورة تشرح الهجران والقصف. بدأت بالتقاط صوري الخاصة، عن الصور الخاصة، للحالة العاطفية الخاصة لفؤاد يوم نشبت حرب وفارقته حبيبة.

يحكي تجربته بحياد ظاهري، كأنّها مجرد روتين
الهجران هو نفي الحبيب عن العرفان للمحبوبة والعلم بالحبيبة، ووضعه في مقام النكران والجهل: أنا حبيبك لكنك الآن لن تعرف عنّي شيئاً، ستتألم لأنك تجهل مكاني، ما أفعله، ما أحس به وما أتألم لأجله. والفرق بيننا وبين فؤاد أن فنّه أهمّ من حياته، إنه يعتاش على هذه التفاصيل الثقيلة، ويقتات منها. ثمة مازوشية فظيعة وتنكيل نفسي ويوميّ، يحكيه الفنان كأنه مجرد روتين.
كيف يستطيع المرء أن يلتقط صوراً لحبيبته التي تغيّر ثيابها في محل ملابس؟ كيف نلتقط صوراً لشخص سيلفظنا كأنّه بحر، ويذهب إلى الأبد في النهار التالي؟ كانت الستارة تفسح للعدسة مساحة ضئيلة ترتفع فيها بلوزة شابّة نحيلة لا نتبيّن ملامح وجهها جيداً. لكن القليل الذي يظهر منها يشي بأنها جميلة. قليل من البطن يظهر، عدسة فؤاد المحكمة لا ترتعش، قلبه ربما! تحس بعاطفته القوية، عبر يوميات قصيرة مكتوبة عند كل صورة. حقاً إن تلك المذكّرات قصائد يوميّةفي يوم 13 تمّوز/ يوليو، يكتب فؤاد بعدما سافر إلى إسطنبول للقاء «ش»، فهو لا يريد أن ينفصل عنها على الهاتف: «ما لا يمكن تصوره، يبدأ بالتحقّق: فقدتها. أقول ذلك لنفسي بينما تتبضّع، تجرب قطع الملابس الواحدة تلو الأخرى في حين أصوّرها وهي تخلعها وترتدي غيرها في غرفة القياس. كم أحسد جسارتها التي تسمح لها بالتركيز على جسدها، وإهمال الأزمات من حولها».
تكتمل رؤية المعرض في ضوء شكلين إبداعيين: الصور الفوتوغرافية والكتابة. نقسم محاوره التي تتحرك في زمنين أيضاً وفي مدن مختلفة، إلى ثلاثة: فؤاد، حرب تمّوز، و«ش». امتزجت محاور الصور واليوميات، بين الشخصيات والزمن الواحد والأماكن المتعددة: بيروت، طريق السفر براً إلى سوريا، عمّان، إسطنبول. لكن الصور كانت أكثر هدوءاً من الكلام. في 8 آب/ أغسطس، صورة «ش» تدير ظهرها العاري وتلف قماشاً أبيض مثيراً أسفل ظهرها. كتب فؤاد على ظهرها، وفي اليوميات أيضاً «الحياة كذبة، هي وأنا معاً، من دون أن نكون معاً، إسرائيل تجتاح لبنان من دون أن تكون في حرب معه... معادلات صعبة».
ليست كل صورة لقطة بذاتها، إنّها مركّبة من صور مختلفة أحياناً للمشهد نفسه، وأحياناً لأكثر من لقطة وُضعت أخيراً في إطار واحد، فيدلّكَ المعنى على نفسه، أو يدلّكَ الكلام الموازي للعمل على القصد من وراء هذا المزج. لنر إلى صورة يظهر فيها المسيح في جهة، ومقاومو «حزب الله» في الأخرى. وإلى جانبها ما دوّنه فؤاد يوم 10 آب/ أغسطس: «قايضت سجائري المالبورو بالسجائر الإيرانية 57. «ش» تعتقد أنّ الفنّ أقل أهمية من الحياة، لكنها ترى أنه بعد صدمات كهذه يعود الفنّ ويصبح ممكناً».
التنوع في استخدام الألوان، أو عدم استخدامها له سبب. الرحيل عن بيروت مثلاً لا بدّ أن يكون بالأسود والأبيض، الحقائب توضّب، لم ينسَ دفتر اليوميات، وعلبة فيها التفاصيل الذكورية الصغيرة، ماكينة حلاقة ربما. يكتب «أقضي النّهار وأنا أودّع أصدقائي، هل أنت خائف؟ لا. ثمة شيء آخر».
يلعب خوري أيضاً لعبة خطرة. يحاول ويقامر بالأمل. يقضي أياماً مع «ش» في إسطنبول، تتركه يصوّرها أكثر من أيّ مرة سابقة، حتى وهي في الحمّام. يتابعان أخبار الحرب، يتلقيان مكالمات اطمئنان، «ش» تحدثه كثيراً عن حياتها. الأمل يظهر في الصورة التي تتخذ ألواناً. فؤاد يكتب «تكاشفني ش ببعض مغامراتها السابقة، أبتهج حين أدرك أنني استعدت ثقتها، لكنها تستدرك قائلة: أحدثك كأنّك صديقتي».
النعومة تجرح، «ش» أتت من مدينة إلى أخرى لتمارس الهجر على أصوله. فؤاد يحاول، ويستيقظ في الفجر دامعاً يلتقط صوراً بكاميرته الـ«لايكا». ش لديها كاميرا رقمية، وصورها تحظى بنجاح أكبر. تنكشف مؤامرة فؤاد العاطفية: «ترتيب الأمور بحيث تكون كل دقيقة أقضيها معها كاملة، إغفال الحرب، الضحك، تبادل الحكايات، الطبخ، التصوير». لقد فشلت المؤامرة على الأرجح، أما المشروع الفنّي الذي تستضيفه بيروت في ذكرى العدوان الثالثة، فيحظى بنجاح أكبر.


حتى 14 آب (أغسطس) المقبل ــــ «فضاء نائلة كتانه كونيغ» (سنتر جفينور، بلوك E، الحمرا، بيروت) ـــ للاستعلام: 01/738706