قصيدة متشظّية، وسريالية فظّة، مطعّمة بالعذوبةحسين بن حمزة
إذا كان كل سياق شعري موعوداً بمن يخترقه أو ينحرف به عن صراطه المستقيم، فإنّ عقيل علي (1949 ــــ 2005) هو أحد الذين اخترقوا السياق الشعري العراقي وانحرفوا به. لا يتّسع المجال هنا لذكر الذين وضعوا بِذارهم الشعري في مناطق وأقاليم غير مأهولة في الشعر العراقي المعاصر، لكن نقصر الكلام على عقيل علي في مناسبة صدور مجلّد «جنائن آدم وقصائد أخرى» (دار الجمل)، متضمناً ديوانيه «جنائن آدم» (1990) و«طائر آخر يتوارى» (1992)، وقصائد تنشر للمرّة الأولى. وتتصدّر الكتاب مقدمة مهمة وضرورية للشاعر جهاد كاظم الذي أدّى دوراً أساسياً في التعريف بتجربة الشاعر الراحل، حين نشر مجموعته الأولى عن دار «توبقال» في المغربكان عقيل علي فرّاناً في الناصرية (جنوب العراق). عاش السنوات الأخيرة من حياته متشرداً ومدمناً على الكحول، ومات بنزف داخلي حاد على أحد الأرصفة في بغداد. نقرأ شعره فنحسُّ أنّنا مدعوون إلى ممارسة شعرية قائمة على كسر البروتوكول المنعقد بين الشاعر والمتلقي. القصيدة هنا محصلة حياة شخصية فريدة، وتفلسف ذاتي ممهور بعصبية وجودية مزمنة، ومخيلة مفتوحة إلى أقصاها. إنّها مكونات وعناصر وأطياف يرتطم بعضها بالبعض الآخر، وتنبعثُ جلبتها ـــــ الخافتة أحياناً والضاجّة غالباً ـــــ من كل عبارة وكل استعارة ومن داخل المفردة الواحدة أحياناً. هناك ضراوة في شعر عقيل علي، لكنّها ضراوة منكسرة ومغلوبٌ على أمرها، وهو ما يجعلها ضراوةً عذبة أيضاً.
الانكسار صفة أصيلة وجوهرية في تجربة هذا الشاعر الذي غالباً ما تفتقر قصائده إلى بناء محكم أو تسلسل منطقي. إذا فكّرنا بالشعر كانعكاس للحياة، فإن هناك صعوبة هائلة لشاعر عاش حياةً متشظّية أن يكتب قصيدة تخضع لهندسة داخلية مطمئنة. التشظّي يتسرّب إلى الشعر، فيبرر للقارئ لِمَ تُشرقط القصيدة في بعض السطور وتُعتم في سطور أخرى؟ ولِمَ يكون معناها غامضاً أو مبعثراً؟ ولِمَ لا تتنامى وفق خط لغوي وتخييلي واضح؟ القصيدة مكتوبة كترجمة لمغامرة حياتية ولغوية، وصاحبها غير مكترثٍ بتعديل أو تنقيح المجازفات التي أقدم على كتابتها. عدم الاكتراث هنا هو موهبة وفن وأسلوب شخصي. الشاعر يُدهشنا، لكننا ـــــ في قرارة قراءتنا ـــــ نعرف أن الدهشة متولدة من ارتطام النقص والاكتمال داخل القصيدة. لن نبالغ لو قلنا إن «ركاكة» أخّاذة تنتج من هذا الارتطام. قد يكون ذلك منبعثاً من عبثٍ

ينطوي شعره على جرعات عالية من العزلة والكحول والتشرد
باللغة السويّة، أو من لامبالاةٍ بخلق التجانس الطبيعي داخل مكونات الصورة المستهدفة، كما هي الحال في عبارات مثل: «وحيداً كان يترنّمُ، يحدو ثكناتٍ من الأغاني»، و«أمامي تقف الينابيع، وسهامها تبطش بلا رحمة»، و«أجلستُ الصحارى على ذراع الديكة»، و«غلمان مجهولون، يهمسون بتقطيع الحجر/ يصوّبون التعارض نحو الوحوش». القصد أنّ سريالية فظّة أو منفلتة تنبعث من هذه العبارات، بينما نعثر على عذوبة كاملة في مواضع أخرى. لنقرأ: «من كان/ ذلك الذي ينتعل لهفة العانس على عتبة البحر/ ثمرة أكتافه ملأى بالكؤوس/ مسافراً في الأثر، يعدُّ فخاخ الأحلام/ آه/ ما أوطأ تلك التلال في ارتفاعها، ما أوطأ القرى، وهي بشموسها تناديك/ أيها المخلِّص/ ما أشدَّ انخفاض الأمل».
مزج عقيل علي التجربة بالكتابة، معرِّضاً الاثنين لجرعات عالية من العزلة واللامبالاة والكحول والتشرد. «أجمل الوسائد هي الأذرع»، قال في قصيدة كتبها قبل موته بقليل. وفي الفترة ذاتها كتب: «لا أعرف طموحاً، لا أعرف رِفعةً، لا شيء.... أُدَهْوِرُ طموحي وأركله». وفي ترجمة أكثر فجاجة، كتب: «أضرطُ على حياتي». لقد تخلى الشاعر عن مصيره، أو لعله أُرغم على التخلي، ولكن ـــــ رغم ذلك ـــــ ظل «لاعقاً السنين بنهم»، وظلت مفردة «الأمل» مواظبة على الحضور في شعره: «ما يبقى هو الأمل وحده»، قال في قفلة قصيدة. وأدخل الأمل في احتجاج مرير وشجي ضد الواقع: «حتى يتهرّأ الفم، سأظل أصرخ (...) وأرتكبُ زلّة الأمل ثانيةً». إنّها إشارات تُرينا أن الشاعر المتشرد والهائم لم يكن مستقيلاً من المشهد العراقي العام، المتخم بالحروب والدم والنفي. الأرجح أنّه كان ضحية لهذا المشهد: «يا بلاداً أريد أن أقول لها/ لقد رأينا الدم/ وليس هذا بتكهُّنٍ/ سيأتي الدم/ سيأتي الدم/ سيأتي».
خصوصيّة عقيل تكمن في قدرته على مباغتتنا. الشاعر الذي يبدو شعره غلة طبيعية لسيرة التسكع والإدمان والاعتلال النفسي والجسدي، يفاجئنا بابتكاراته الشعرية الفاتنة التي تضع تجربته على حدة. نقرأ الاقتباس التالي، ونفكر كم هو خارجٌ على ما اعتدناه من شعر الحب: «كان بإمكاني أن أدنِّس نصاعتكِ/ لكن لا/ ليس هذا ما أبغي/ إنني أحب المشاهد المقمرة، فالليل في النهايات (...) ما أعذبكِ وأنت تقطِّرين قلبكِ في مسمعي/ وبكنفِ عينيكِ يأكل ويشرب الزمن».
يُذكرنا عقيل علي ببعض التجارب الفريدة في الشعر العربي والعالمي التي كأنما ولدت من تلقاء نفسها. هذا ما نقوله لأنفسنا ونحن نقرأ شعراً نكاد لا نعثر فيه على ديونٍ مستحقة للآخرين.