الضاد تحتضن مجدداً أشعارها الملتهبة، مع ترجمة «تمرّد» في سوريا. وقفة عند الرائدة النسوية التي تركت بصماتها على الديوان الإيراني المعاصر
خليل صويلح
الحياة الخاطفة التي عاشتها الشاعرة الإيرانية فروغ فرّخ زاد (1935 ـــــ 1967)، وضعت نصوصها في مقامٍ استثنائي. النصوص التي طالما أثارت أسئلة ساخنة وملتبسة بين ما هو بيوغرافي وتخييلي، كانت إشارة إلى الحياة الصاخبة التي عاشتها هذه الشاعرة «المارقة»، ما جعلها في مرمى سهام الآخرين. ما زالت صورتها في وجداننا شاعرة شابة تتجاوز الحدود في طريقة عيشها، وتكتب رغباتها بجسارة، من دون أن تلتفت إلى الوراء أبداً. صدور ديوانها «تمرّد» (دار نون ــــ حلب) الذي ترجمته عن الفارسية علياء الداية، فرصة لاستعادة تجربة هذه الشاعرة التي لاقت حتفها في حادثة سير في أحد شوارع طهران. وإذا بقبرها يتحوّل في ذكراها السنوية، مزاراً يمتلئ بالزهور، ومكانٍ لاستعادة أشعارها الملتهبة، مثلها مثل عمر الخيّام وحافظ الشيرازي.
كتبها الممنوعة في إيران ما بعد الثورة الإسلامية لم تحجب أشعارها عن الأجيال الجديدة من قرّاء الفارسية، بل ازداد الاهتمام بتراثها الشعري بوصفها رائدة نسوية في اقتحام مناطق محظورة، إضافة إلى النفحة الحداثية التي تركت أثرها واضحاً في ديوان الشعر الإيراني المعاصر، وخصوصاً في قصيدتها الهجائية «يا أرضاً مرصّعة بالجواهر»، إذ تسخر من الشعراء النظّامين بقولها: «مجموعة من المعدمين، يبحثون عن الأوزان والقوافي في القمامة».
في «تمرّد» (1958)، تواصل فروغ فرّخ زاد عصيانها، ونزعتها الأنثوية الصارخة. إذ تتلمّس مفردات حسيّة فجة في وصف أحوالها ومكابداتها وأشواقها. «في الظل لا تنمو الشجيرة أبداً» تقول. هكذا صفقت الباب وراءها، بعد زيجة فاشلة انتهت إلى الطلاق، ثم طردها والدها الكولونيل من بيته أيضاً تجنباً للعار. هذا الحصار قادها أخيراً إلى مصحٍّ عقليّ، قبل أن تغادره إلى روما وميونيخ في رحلة طويلة. في هذه الحقبة من حياتها، سنجد نكهة شعرية مختلفة عمّا أنجزته قبلاً، فتتكرر مفردات العزلة،

مفرداتها حسيّة وفجّة، وقبرها ملجأ لعشاق الشعر
والكآبة، والجدران، والأقفاص، في ترجيع لمراياها الداخلية المضطربة. وتصف الشاعرة أحوالها في تلك الفترة بـ«التخبط السريع اليائس للذراعين والقدمين، وشهقات النفس الأخيرة قبل الانعتاق». تعرّفها إلى الكاتب والسينمائي إبراهيم كلستان، فتح أمامها آفاقاً جديدة. إذ انخرطت في العمل السينمائي مخرجةً وممثلة. فيلمها «المنزل أسود» (1962) عن مستعمرة للجذام في تبريز، يعد أحد أهم الأشرطة الوثائقية في تلك الفترة. أما علاقتها الحميمة مع كلستان فقد تركت ندوباً عميقة في روحها، إثر الشائعات التي لاحقتها إلى آخر أيام حياتها «لم تهبني قلبك، عندما كنتُ كالنار/ أحترقُ عطشاً إلى جسدك. كنتُ في مدرسة أحلام كوكب الزهرة، قد تعلّمتُ فنون الجاذبية والفتنة».
لا شك في أنّ فروغ أدركت حجم الحصار الذي خنق رغباتها في مجتمع ذكوري، لم يقبل على الإطلاق، حرية امرأة فاتنة وجامحة مثلها، لكنها واجهت مشكلاتها بصلابة وعاندت التيار كي تشبه نفسها فقط. تقول في قصيدتها «عودة»: «الطريق بلغ نهايته، وقد وصلت من الدرب مشعّثةً مغبرّة/ عطشى والدرب لم يوصلني إلى النبع. واأسفاه كانت مدينتي قبراً لآمالي». إلى هذا الحد كانت صاحبة «الحائط» يائسة ومحبطة؟ هذا ليس مستغرباً. على أي حال، فنحن حين نستعيد يومياتها المحطّمة سنجد من دون عناء حجم الضيم الذي واجهته أدبياً وحياتياً. كان الباحث الأميركي مايكل هيلمان قد أنجز كتاباً شاملاً عن حياة فروغ فرخ زاد وأشعارها بعنوان «امرأة وحيدة» («ابداعات عالمية»/ الكويت ــــ 2007)، تتبّع خلاله مسيرة هذه الشاعرة. وأشار إلى أن مرجعية أشعارها مستمدة من خبراتها الشخصية أولاً، وذلك بتجاهلها المتعمد لتقاليد الشعر الإيراني. لعل هذا ما نجده بوضوح في ديوانها الأخير «لنؤمن ببداية فصل البرد» (1967). هذا الديوان الذي جُمع بعد رحيلها، كان بمثابة بيان شعري أخير، يختزل تجربة الشاعرة ونظرتها المغايرة إلى محيطها: «الريح تعصف في الشارع، منذرة ببدء الخراب. أشعر بالبرد، ويبدو أنني لن أعرف الدفء مجدداً. أشعر بالبرد وأعرف أن ما من شيء سيبقى سوى بضع نقاط من الدم».
هل تنبأت فروغ بنهايتها المفجعة؟ هناك مقاطع كاملة تصف فيها قبرها المظلم، ووحشة المكان، لكن ما لم تتوقعه أن يصبح قبرها ملجأً لعشّاق شعرها، يرددون كلماتها، كمن يأسف لما كابدته خلال حياتها القصيرة.