سفيان الشورابي«إلى السجناء العرب في السجون الإسرائيلية والسجناء العرب في السجون العربية»، تلك كانت الجملة الشهيرة التي ردّدها مارسيل خليفة قبل أدائه أغنية «عصفور طلّ من الشباك» ذات ليلة من ليالي «مهرجان قرطاج 2005»... تلك الجملة كلّفته يومها عدم دخول تونس والامتناع عن بثّ أغانيه على جميع القنوات الرسمية المحلية قبل أن يُتراجَع عن هذه القرارات التي لاقت موجة احتجاج واسعة. وها هو الفنّان اللبناني يزور تونس للمرة الثانية. إذ قدّم أول من أمس حفلة ضمن فعاليات «مهرجان قرطاج» وكرّر جملته تلك عن السجون العربية، غير آبه بحضور وزير الثقافة التونسي عبد الرؤوف الباسطي أو غيره من كبار المسؤولين الرسميين.
وبينما يجزم كثيرون بأنّ عهد الأغنية الملتزمة بموضوعات قضاياها الوطنية والقومية قد ولى وانتهى مع أفول مختلف المذاهب الأيديولوجية الكلاسيكية، ما زالت أغنيات خليفة التي سطعت في زمن المدّ الثوري تلهب مشاعر الجماهير التونسية التي حضر منها ما يزيد عن 15 ألف مستمع غصت بهم مدارج المسرح الأثري الروماني. الجميع ردّد مع مارسيل أغنياته الكلاسيكية بدءاً من «ريتا» و«ترنيمات حورية»، مروراً بـ«تكبّر» و«عصفور طل من الشباك» بمشاركة أميمة الخليل، انتهاءً بـ«جواز السفر» و«يطير الحمام» و«يا بحرية». فيما أغفل عن إمتاع جمهوره بمقطوعات من ألبومه «كونسرتو الأندلس» ربما لأنّ ذلك يستوجب توافر عدد ضخم من العازفين والمنشدين.
حناجر الجمهور التونسي التائق إلى أغنيات تغوص في وجدان العربي النازف لم تهدأ عن الغناء مع مارسيل، ما دفعه مراراً إلى أن يستسمحهم «بالغناء معهم». وقد قدّم خليفة خلال الأمسية التي استمرّت حوالى ثلاث ساعات، ألحاناً لبعض قصائد محمود درويش، فيما أهدى أغنية من قصيدة «ونحن نحبّ الحياة لمن يستطيع إليها سبيلاً» نيابةً عن درويش إلى الشعب الفلسطيني. وهنا، تعالت الزغاريد ورُفعت الكوفية الفلسطينية ورُدِّدت شعارات مساندة للقضية مثل «غزّة رمز العزّة».
في الواقع، كانت الأمسية رحلةً حقيقيةً جابت مختلف زوايا الانكسارات العربية وحلمت بغد أفضل لجيل شبابي حضر الحفلة بكثافة لافتة. جيل وُلد في عصر يحكمه الاستبداد السياسي ويهيمن عليه التحجّر والخواء الفكريين، إلا أنّه ما زال يصارع موجات الرداءة والتخلّف.
وبما أن حفلات مارسيل في مختلف المدن العربية تظل دوماً «محجّاً» و«مزاراً» لجميع الناشطين السياسيين والمفكّرين العلمانيين، فإنّ تونس تتميز دوماً بمقاربتها «الاستثنائية» في التعاطي مع هذه النوعية من المواعيد. إذ منع أفراد الأمن السياسي عدداً من المعارضين من الالتحاق بالحفلة رغم حصولهم على بطاقات، وبلغ الأمر حدّ اعتقال بعضهم لغاية انتهاء الحفلة!