أمل الأندري
«ما الذي يكسبه الفلاّح المصري من الاستقلال؟ فلنقلها إذاً قولة صريحة يا حضرات النوّاب، فقد عملنا لتخليص المصري من الاستعمار الأجنبي، وقد بقي علينا أن نخلّص المصري من الاستعمار المصري». هكذا وصف أحد قادة حزب «الوفد» مكرم عبيد الأوضاع التي كان الشعب المصري يعانيها عشية الاستقلال عام 1936. ولعلّ توصيفه يكاد يكون عنواناً عريضاً لأمّة تنوء اليوم تحت ثقل استعمارين: أجنبي ومحلّي... وانقسامات أفقيّة وعموديّة وتركة ثقيلة من الهزائم والإحباطات والانكسارات. خطاب عبيد في مجلس الشعب المصري قبل سنوات بعيدة، استعاده حليم بركات في «المجتمع العربي المعاصر» (مركز دراسات الوحدة العربية). الباحث والروائي السوري أصدر عمله هذا لأوّل مرة عام 1984، وها هو يضيف إلى العنوان آخرَ فرعياً هو «بحث في تغيّر الأحوال والعلاقات». ذلك أنّ العمل ليس نسخة جديدة عن القديم بل «كتاب جديد... يهدف إلى تقديم صورة شاملة للمجتمع العربي خلال القرن العشرين، من دون أن يهمل تعقيداته... وعلاقاته بالذات والآخر وموقعه من التاريخ الحديث»، كما يوضح صاحب «طائر الحوم» في المقدّمة.
مجتمع نيو بطركي ملقّح بالحداثة، ويعاني من التبعيّة
حليم بركات (1933) يُعتبر اليوم أحد أبرز الأسماء التي انكبّت على تشريح بنية المجتمع العربي إلى جانب الفلسطيني الراحل هشام شرابي. وهذا الأخير يُطلّ مراراً بين ثنايا كتاب بركات، وخصوصاً عبر نظريّته المحوريّة التي تعزو أمراضنا وانهزاماتنا إلى البنية البطركيّة، وهيمنة السلطة الأبوية على المؤسسات: من العائلة إلى أجهزة الدولة.
قسم بركات كتابه إلى أربعة أقسام: تناول الأوّل الهويّة العربيّة وتعددية الانتماء، واستعرض الثاني أنماط المعيشة بين البداوة والفلاحة والحضارة. ورصد الثالث المؤسسات والبنى الاجتماعية، قبل أن يطرح الرابع مكوّنات الثقافة العربية، مخصّصاً فصلاً كاملاً لسوسيولوجيا الأدب، يدرس فيه الواقع الاجتماعي في مرآة الرواية العربية.
صاحب «الهوية، أزمة الحداثة والوعي التقليدي»، ينظر إلى المجتمع العربي بصفته قائماً على هويّات عديدة ومتنافرة، وولاءات عشائرية وقبليّة ودينية وطائفية، يرتكز في تنظيمه على الأسرة، متخلّف في عمقه يعاني التبعيّة وعبء النزعة الاستبدادية، تتجاذبه الحداثة والسلفية، الماضي والحاضر. ولعلّ أحد أبرز العوامل التي أدّت إلى الحداثة المجهضة، بحسب بركات، هو اغتراب المجتمع عن ذاته. وقد عنى بكلمة «اغتراب» ما قصده دوركهايم من عدم سيطرة المجتمع على موارده ومصيره، وتداعيه من الداخل وهيمنة السلطة والمؤسسات الملحقة بها عليه. هذا الإحساس بالاغتراب تعزّز مع قيام إسرائيل والنكسة والحرب الأهلية في لبنان... أحداث برهنت على عجز المجتمع عن مواجهة التحديات التاريخية وهشاشة الحركات السياسية والاجتماعية. بينما عمّقت العولمة ذلك الاغتراب، بعد فشل مشروع التكامل الاقتصادي بين الدول العربية وارتباط المجتمع بالسوق العالمية الرأسمالية.
هذه التبعيّة، وفق هشام شرابي، لم تؤدّ إلى الحداثة بل إلى مجتمع نيو بطركي ملقّح بالحداثة. ولم تقتصر التبعيّة بحسب المفكّر المصري جلال أمين على الاقتصاد والسياسة، بل شملت الثقافة وهذا هو الأخطر. لكنّ النهم الاستعماري الجديد المتمثل بالولايات المتحدة ليس التحدّي الوحيد الذي يواجه المجتمع العربي. ففي الداخل، يعاني هيمنة الطبقات والعائلات المحلية الحاكمة التي تُصرّ على امتيازاتها فتتحالف مع الدين أداةً تدفع الشعب إلى تقبّل الاستغلال.
يقدّم بركات مفاتيح متعددة للإحاطة ببنى المجتمع العربي بتعقيداته وتشابكاته. ثم يقدّم تصوّره، النظري للأسف، فالتطبيق مسألة أخرى، لآفاق نهضة جديدة: تنشيط المجتمع المدني، الموازنة بين الحريات والعدالة الاجتماعية، تعزيز الديموقراطية، إقامة ثورة سياسية واجتماعية معاً: لأنّ هناك علاقة بين القهر القومي والقهر الاجتماعي، بين التحرّر من التدخّل الأجنبي والتحرّر من الفقر والاستبداد الطبقي.
وسط هذا المشهد، يفرد عالم الاجتماع حيزاً لمساءلة الرواية العربيّة التي يُعتبر أحد روّادها. ولا يتردّد في تناول عيّنات من أعماله الشخصيّة من جملة ما يعرّج عليه من نصوص، قاصداً استقراء الواقع وإرهاصاته عبر الأدب. هكذا تتجلّى الرواية العربية مرآةً ومنارةً في آن. مرآة نتلمّس فيها وجهنا اليوم، ومنارةً تُرشدنا... تقول لنا كيف ينبغي أن يكون عليه وجه المستقبل.