الكاتبة النسويّة والطبيبة المصريّة، تعود بنا إلى ثيمتها الأثيرة: ثنائيّة الأنثى المستضعفة والرجل الطاغية... لكن روايتها «زينة» (الساقي)، أقرب إلى عظة نضاليّة
سناء الخوري
الرجال هم الأشرار في «زينة» (الساقي) رواية نوال السعداوي الأخيرة. تكتبهم المناضلة النسويّة مسوخاً. نراها تقارب الرجولة كقوّة مخرّبة، وساقطة، ومقيتة. هنا يتحوّل الرجل إلى صنوٍ لكلّ أشكال القمع السياسيّ والدينيّ والجنسي، وتصبح الرجولة رمزاً للازدواجيّة بين المكشوف والمستور، بين المكبوت والمتفلِّت، بين السريّ والمُعلن. الكاتبة المصريّة المقيمة اليوم في بروكسيل، تختزل المجتمع العربي إلى عالم بالأبيض والأسود، الحدود فيه صارمة بين الظلمات والأنوار، بين الوعي واللاوعي... أو كما تقول مجيدة الخرتيني إحدى بطلات الرواية: «مثل أبي وأمي له وجهان كلّ منهما يناقض الآخر».
تأخذ الأنوثة، في المقابل، شكلاً أكثر صدقاً وأخلاقيّة. زينة «ابنة الشارع والزنى»، تغدو موسيقيّة مشهورة. تمتلك صفات تفتقر إليها باقي النساء: تعزف وتغنّي وترتدي أثواباً قطنيّة وتثير الذكور... لكنّها تبقى عصيّة على أيّ اختراق. الأخريات يرزحن تحت

أطروحات ينوء، تحت عبئها، تماسك الحبكة
أطنان القمع والعبوديّة، بينما تجعل السعداوي من بطلتها، إلهة حبّ خرجت من رحم الشارع: إنّها الأنثى الوحيدة في الرواية. حين أطلقت روايتها في خريف 2008 بالفرنسيّة أولاً، ومن بروكسيل، إثر خلاف مع ناشرها المصري الحاج مدبولي، اختارت لها عنوان Zina: Le roman volé (لوك بير ـــــ ترجمة هدى بن غشام)، وأهدتها لكلّ طفل ولد في الشارع، وحرّم عليه النظام السياسي والديني الجائر، تعريف نفسه باسم أمّه.
حين نقرأ «زينة» بلغتها الأصليّة أخيراً، نلاحظ أنّ المرافعة عن قضيّة أبناء الشوارع ليست إلا المستوى السطحي للرواية. تسيطر ثنائية الأنوثة والرجولة على الحبكة، وبين الرمزين الكبيرين، تندرج التفاصيل الصغيرة: السلطة في وجه المعارضة، التزمّت الديني في وجه الحبّ والموسيقى. تعبر في الفئة الأولى أطياف منسجمة مع نفسها: إلى جانب زينة أطفال الشوارع المغتصبون، نسيم والدها الثائر الذي يقتله «البوليس»، زينات جدّتها، الصحافي أحمد، وبدريّة: البطلة الخياليّة لرواية بدور الدماهيري، والدة زينة من علاقة غير شرعيّة مع نسيم.
أمّا الشخصيات التي تجسّد الذكورة، فمجانين يرتدون أقنعة عقلاء. على كرسيّ الطبيب النفسي، تبدو مجيدة نموذجاً مصغّراً عن عقد والديها. الأب زكريا الخرتيني عاجز جنسياً، أحد الكتبة المتلطين في عباءة النظام، يغتصب أطفال الشوارع، يزور بيوت الدعارة، يضرب زوجته، ثمّ يستيقظ في الصباح ليكتب مقالاً عن عيد الأضحى، وآخر يمدح فيه الرئيس وحرمه. بدور، زوجته ناقدة لامعة، تحلم أن تكون أديبة، وتكتب رواية سريّة تسرق منها في النهاية، تتقمّص ليلاً دور بطلتها بدريّة، فتصير طيفاً يحاكم ذاتها الاجتماعيّة. على كرسيّ الطبيب النفسي إذاً، نرى صورة مجتمع بأكمله، يختنق في هواء الدولة الملوّث: شوارع فقيرة، رجال دين يفتون في إحياء البشر وقتلهم، صحافيون مأجورون لتلميع صورة الحريّات المشوّهة. يتخذ كلام السعداوي نبرة العظة، وتستحيل روايتها مرافعة لنصرة المظلومين في مواجهة الأنظمة وأصحاب اللحى.
مرّة إضافيّة، نلحظ فرادة النبرة في نصّ السعداوي، وقدرتها على كسر حواجز الصمت على انتهاك حقوق الإنسان. وتمضي في سخطها على الفكر الديني، فنجدها تطارد صورة الظلم الإلهي في الكتب السماوية، في قراءة قد يجدها القارئ عشوائيّة، حتّى لو كان من المعجبين بجرأتها في محاججة الظلاميّة. على سبيل المثال لا الحصر، نراها تقارع النظرة الدينيّة إلى الزانية، فتفتقر إلى الدقّة في اختيار أمثلتها. تقرأ مثلاً الفصل 17 من رؤيا يوحنا «هلمّ فأريك دينونة الزانية العظيمة...» (ص. 166) ــ الذي تنسبه إلى الإنجيل! ــ على أنّه إحالة حصريّة إلى امرأة زانية، فيما هي رؤيا رمزيّة أشمل اختلفت تأويلاتها. فقد لا يكون المقصود عند يوحنا المرأة الزانية حرفياً، بل بابل أو أورشليم أو غيرهما...
الكتاب متخم بأطروحات ينوء، تحت عبئها، تماسك الحبكة وعمق الشخصيات. لذا، قد يكون أكثر إنصافاً أن نقارب النصّ لا كعمل أدبي أو حبكة روائيّة، بل كخطبة مباشرة تهزأ من أمير حركة إسلاميّة يضع الناس على لائحة الموت، ويخاف من الصراصير و... يشتهي زينة. يدخل القارئ النصّ بحثاً عن إضافات فكريّة أو جماليّة، فإذا به أمام نوال السعداوي نفسها، كما عرفناها منذ «سقوط الإمام» (1987) و«المرأة والجنس» (1969)، لكن في طبعة 2009.