ترى أن الحاجة ملحّة إلى معجم نسوي عربيخليل صويلح
«لقد ورثنا لغةً ملوّثة»، هذه العبارة التي قالتها جوليا كريستيفا، تستعيرها زُليخة أبو ريشة في كتابها «أنثى اللغة» (دار نينوى ــــ دمشق) كي تطأ أرض اللغة من موقع مضاد، باعتبارها لغة ذكورية بامتياز. كان كتابها «اللغة الغائبة» (1996) محاولة أولى في مقاربة النظرية النسوية، وها هي تستكمل مشروعها في التصدّي للغة الذكورية وسلطتها المستمدة من النصوص المقدّسة. لقد باتت مساءلة تلك النصوص أقرب إلى التجديف ــــ تقول ــــ وتالياً فإنّ أي محاولة في رفض قيود هذه اللغة، تقع في المنطقة المحظورة. أليس صوت المرأة عورة؟ فما بالك بخطابها الذاتي والمستقلذكوريّة اللغة إذاً لا تقف عند حدود التحيّز، بل تنسف كل ما هو أنثوي، وخصوصاً في المعاجم. ما وضع المصطلح النسوي العربي في أزمة تاريخية. تشير صاحبة «غجر الماء» (1999) إلى إقصاء عدد هائل من المصطلحات النسوية من اللغة العربية. لعل هذا ما تعكسه القواميس التي يضعها الذكور غالباً، عبر رؤية أحادية للعالم، وإذا بالمذكر ينفرد بمعاني «الشدّة والقوّة والكمال والشهامة». حتى أنّ معجم «المورد» (إنكليزي ــــ عربي) لمنير البعلبكي، لم يشذ عن هذه القاعدة، ولم يفلت من فخّ الذكورية في التفكير واللغة. الصفات والأسماء تخص المذكّر فقط. هكذا، تبدو الحاجة ملحّة إلى معجم نسوي عربي، يعيد صوغ المصطلح على نحو آخر في «تطوير النظرية النسوية وأدبياتها وفلسفتها». وتقترح صاحبة «للمزاج العالي»، تأنيث الخطاب العربي الذي يهمل نون النسوة ويطيح بنيتها من جذورها.
مأزق اللغة العربية إذاً، هو مأزق ثقافي، ينهض على تغييب المرأة بعد انتصار البطريركية الذكورية، ميثولوجياً وتاريخياً. لعل هذا ما لفت إليه عبد الله الغذامي في «المرأة واللغة»، بقوله: «المرأة معنى والرجل لفظ، وتالياً فالمرأة موضوع لغوي، وليست ذاتاً لغوية». لقد فقدت عشتار مكانتها بعد الانقلاب الذكوري نتيجةً لانهيار الثقافات الأمومية، لتُلحق معظم المفردات التي تحمل معانيَ سلبية بتاء التأنيث، مثل «خيانة، نقمة، رداءة، تفاهة، دعارة».
تقويض النسوية في لغة الضاد، أتى من سلطة مدوّن التاريخ والتراث الرسمي والشعبي، فراح يحذف ويضيف تبعاً لمصالحه الذكورية «الفحولة هي القلم الذي دُوّن به التراث العربي وكُتب»، تقول زليخة أبو ريشة، لافتةً إلى اكتشافات عبد الله الغذامي الذي أشار إلى أنّ «النسق الفحولي هو أبرز الأنساق الثقافية قوة وهيمنة»، بقصد حجب الأنوثة ومنع التأنيث، وإلا هل يعقل أنّ الثقافة العربيّة ــــ الإسلاميّة، لم تنتج على امتداد خمسة عشر قرناً، سوى بضع شاعرات؟
وتشكك الكاتبة ببعض الأفكار المنحولة لفقهاء وعلماء ومؤرخين، تنظر إلى المرأة بدونيّة. كما تدين كتابات آخرين، مثل الغزالي في «آداب النكاح وكسر الشهوتين»، معتبرةً إياه مثالاً على أنّ المنظور الذكوري الفحوليّ هو المنطلق الوحيد: «المخاطبة للذكر وليس للأنثى. وإن كانت إليها فلكي تكتسب آداب التعامل مع ذكرها». كذلك لا يتحقق وجودها إلا من موقع الغواية للذكر، وفقاً لما تقوله فاطمة المرنيسي في كتابها «الجنس كهندسة اجتماعية». وها هو ابن سيرين يصب الزيت على النار حين يصف النساء بقوله: «هنّ مفاتيح أبواب الفتن، ومخازن الحزن». فيما يحفل الأدب الشعبي بمئات الصور السلبية للمرأة، حتى الشعر الجاهلي أسهب في وضع مقاييس لجمال المرأة بوصفها عنصر غواية للرجل لا أكثر.
وتختار الكاتبة عدداً من صحيفة «القدس العربي» كعيّنة تطبيقية لصورة المرأة في الإعلام العربي. تجد 19 صورة لذكور، وصورتين نسائيّتين، كما تميل الأخبار والمقالات إلى التذكير عند الجمع، أو جموع التكسير. وإذا بالعنف اللفظي ومفردات الحرب تتسلل إلى النصوص، بما فيها صفحات الرياضة، كافتخار ذكوري: «الأهلي «يسحق» الترسانة». أما صورة المرأة فتحضر كرمز للجنس «الأيقونة الشقراء للقرن العشرين» في تقرير عن رواية تستمد أحداثها من حياة مارلين مونرو «كجسد ودمية». مهلاً، هناك خبر عن مهرجان «مكتب الوطن العربي الإقليمي للاتحاد النسائي الإسلامي العالمي» في صنعاء... لكن تفاصيل الخبر لا تذكر اسماً نسائياً واحداً، بل اسم رئيس البرلمان اليمني الذي ألقى كلمة في المهرجان!
الفصل الأخير من الكتاب يعيدنا إلى غبار المعركة التي دارت حول رواية «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي، بعنوان «اللغة المذكّرة في الرواية المؤنثة» والأسئلة الملتبسة عن هوية كاتبها (كاتبتها؟)، أو من صاغ مخطوطتها النهائية (سعدي يوسف؟)، والشحنة التي تركتها عبارات كتبها نزار قباني على الغلاف «روايتها دوختني، وسبب الدوخة أن النص الذي قرأته يشبهني إلى درجة التطابق». هكذا بدلاً من أن تعلن زليخة تضامنها مع صاحبة الرواية، أقلّه لجهة الدفاع عن نص أنثوي هي من يطالب به، تجزم بأنّ أحلام «استباحت القاموس النزاري إلى درجة قصوى، وبقدر هائل من هرمونات الذكورة».
قارئ «أنوثة اللغة» سيجد نفسه أمام مجموعة أسئلة نقديّة، بينها ما يطرح على المؤلفة نفسها: هل الانتصار للأنوثة يقود حتماً إلى إقصاء الذكورة؟ وكيف نقيّم مئات النصوص المذكّرة التي تستعير الأنوثة اللغوية في متنها السردي؟