تسعون «الثورة» الثقافيّة التي صالحت التقنيّة والإبداعجاد نصر الله
من طوكيو إلى نيويورك، ندوات ومعارض تحتفي هذا العام بمرور تسعين سنة على مدرسة «الباوهاوس» التي أسّسها المعمار والتر غروبيوس (1883ـــــ1969). تلك المدرسة التي رفعت شعار «الفن والتقنية ـــــ وحدة جديدة»، تركت بصمات واضحة على الفنون التشكيلية والمعمارية والحرفية. في 20 آذار (مارس) 1919، قدم المعماري الألماني طلباً لإنشاء مدرسة «الباوهاوس» (Bauhaus وتعني بالألمانية «بناء بيت») في مدينة فايمار، تجمع بين أكاديمية الفنون والمعهد الحرفي للصناعة. يومها، كتب غروبيوس بيان الأكاديمية معلناً أنّ «الهدف الأساسي للفنون التشكيلية كلها هو البناء، وعلى المعماريين والنحاتين والرسامين العودة إلى الحرفة. إذ لا فارق أساسياً بين الفنان والحرفي. الفنان صيرورة مكثّفة للحرفي ومعرفة أسس الحرفة وركائزها أمور لا يستغني عنها، أي أنها مصدر لإنتاجيته الخلاقة».
تقوم «الباوهاوس» على الجمع بين الفنّ والحرفية لخلق جماليات جديدة، وهو ما يصطلح على تسميته اليوم بالـ«تصميم». كان ذلك بداية الانقلاب على المفاهيم السائدة في العمارة والفنون. وبين أبرز مَن انضوى تحت لواء غروبيوس، في هذه الثورة الثقافية، الرسّام السويسري بول كليه، والروسي فاسيلي كاندنسيكي وغيرهما...
منذ البداية، أثبتت «الباوهاوس» أنّها مدرسة للفنون الجميلة مغايرة في أسلوبها التعليمي للمناهج المتعارف عليها. إذ إنّها تهدف إلى أن تكون صورةً حقيقيةً عن المجتمع وانعكاساً لواقع الحياة اليومية، عوضاً عن كونها معهداً أكاديمياً للنبلاء. أحد متخرجي المعهد كتب في مدوّناته: «الفعل الأول «للباوهاوس» كان فكفكة كل الأفكار الثابتة... فجأة اكتشف الناس أن الحياة يمكن أن تُرى من منظور مختلف كلياًلجأت الأكاديمية في التدريس إلى فنانين مشهورين، وردمت الهوة بين الفنانين والتقنيات الصناعية، وكسرت الحواجز التي تفصل بين ما هو فني وما هو عملي وما يمكن تعلّمه كالتقنية، وما يمكن التحفيز عليه وهو الإبداع. من هنا، تكمن أهمية «الباوهاوس» في كونها مركزاً تجريبياً يستفز روح المغامرة الإبداعية والطرح الجريء، على اعتبار أنّ الآلة الصناعية والأداة الحرفية لا تقلّان أهمية عن عمل الفنان لا بل إنّهما مكمّلان له. وهي مختبر يعمل على إنتاج التصاميم الجيدة الموجهة إلى عامة الناس (industrial design) كالمصابيح الكهربائية والمفروشات المنزلية التي ما زالت حاضرة بقوة في عمارتنا الحديثة.
اتخذت أكاديميّة «الباوهاوس» لدى إنشائها مقراً في مدينة فايمار. وكان البناء كلاسيكياً لا شيء فيه يدل على الخصوصية الوظيفية، ولا على الطروحات الثورية التي نادى بها والتر غروبيوس. ثم انتقلت عام 1926 إلى مدينة ديساو الصناعية حيث انتقى غروبيوس أرضاً خالية من أي بناء، ليشيد عليها تصميمه الخاص. هكذا، بدا البناء الجديد الذي انتصب أمام أعين السكّان جسماً غريباً بزواياه القائمة وجدرانه الزجاجية ومسطّحاته الثلاثة. إذ أرسى مفاهيم جديدة للواجهات المعدنية والزجاجية التي تدلت كستائر (mur rideaux) متحررة من المسطحات والهيكل الإنشائي للمبنى... وما زالت تلك المفاهيم معتمدة حتى اليوم في العمارة الحديثة. ميّز البناء أيضاً، وقتذاك، تعدد أحجامه واختلاف ارتفاعاتها واتصال جميع الوحدات بعضها ببعض، بغض النظر عن حاجاتها الوظائفية.
وقد أراد غروبيوس من وراء ذلك ترسيخ مفهومه للتجريبية، عبر خلق مساحات مشتركة للتلاقي والتفاعل. هكذا مثّلت الممرّات ــــ إضافة الى وظيفتها الأساسيّة ــــ محترفات للرسم والتصوير، ومساحات للنقاش والتفاعل وتبادل الخبرات. وخلافاً للسائد، سمح تعدد الأحجام الهندسية غير المتناظرة بتعدد محاور النظر، فصَعُب على الزائرين مثلاً تحديد مدخل المبنى عبر محور رئيس، كما تعارفت عليه العمارة قبل هذا البناء. وباجتماع هذه العناصر، اعتُبر مبنى «الباوهاوس» في ديساو، أحد أشهر الأبنية في تاريخ عمارة القرن العشرين. إذ بدا في حينه رمزاً لأمل جديد وحيوية، ولدت بعد 8 أعوام على كوارث الحرب العالمية الأولى. وأظهر مصمّمه للصناعيين، عبر مفهومه البراغماتي، أحقية أفكاره الجذرية.
وكان طبيعياً أن تتعرّض الأكاديمة لمضايقات النازيين إبان الحرب العالمية الثانية، ما دفع العاملين فيها إلى ترك المبنى أواخر 1932، والانتقال إلى برلين. استولى هتلر عليها وحوّلها إلى مركز لتدريب الفتيات العاملات، من دون أن يجري تغييرات على عمارتها. وفي 1950، وقعت ديساو تحت حكم ألمانيا الشرقية، واعتبر الشيوعيون في بيان رسمي أن التصميم الحديث للمبنى «يؤدي إلى دمار العمارة»، فرمّموه كيفما اتفق بعد تعرّضه للضرر الشديد نتيجة القصف. حروب كثيرة مرت على البناء ذي الطبقات الثلاث، ولم يعد إلى حاله الأصلية إلا بعد ترميمه في 1977، مع الاعتناء بأدق التفاصيل الداخلية. صنّفته منظمة الأونيسكو على لائحة التراث العالمي عام 1996 وأعيد افتتاحه من دون أن تكون له وظيفة محددة.