بعد 250 عاماً على رحيله، ما زال عمله «المسيح» من أكثر المعزوفات الكلاسيكيّة انتشاراً. مثل باخ كان لوثرياً، وأصيب بالعمى في آخر أيامه...

بشير صفير
بعد مندلسون، سفير الكلاسيكيين عند الرومنطيقيين، وهايدن، عميد الحقبة الكلاسيكية، نصل إلى ثالثة المناسبات التي يحتفي بها عالم الموسيقى هذه السنة. إذ تصادف أيضاً الذكرى الـ250 لرحيل المؤلف الإنكليزي من أصلٍ ألماني جورج فريدريك هاندِل (1685 ــــ 1759) الذي عاشت بريطانيا طويلاً على أمجاده، بانتظار إدوارد إلغار (1857 ــــ 1934)، معيد الاعتبار للمؤلفين الإنكليز بعد قرن ونيّف من الركود.
ثمة مقطوعة لهاندِل تشكل قاسمَ معرفةٍ مشتركاً بين جميع المستويات الثقافية في المجتمع، ولو أنّ بعضهم لا يعرف حتى اسم صاحبها. إنها الـ«هلّلويا» التي تصدح بها الجوقة في المناسبات، وخصوصاً في الأفراح، وهي جزءٌ من عملٍ له بعنوان «المسيح»، من فئة الـ«أوراتوريو» الديني، الشكل الموسيقي الذي منح هاندِل القيمة التي منحتها السيمفونية لبيتهوفن.
ولد هاندِل في بريطانيا في 23 شباط (فبراير) عام 1685، قبل شهرٍ واحدٍ من ولادة باخ. يجمعه مع الأخير، إضافةً إلى المعاصرة، انتماؤه إلى المذهب اللوثري وفقدانه بصره في السنوات الأخيرة من حياته. لكن نقطة الاختلاف الجوهرية بينهما هي تاريخ عائلتيهما. باخ هو من سلالة موسيقية أباً عن جَدّ، واستمر هذا الإرث مع أبنائه، أما هاندِل فهو الموسيقي الأول والأخير في عائلته. دخل عالم الموسيقى رغماً عن والده الذي كان يفضل أن يصبح ابنه محامياً.
الاحتكاك الأول مع الموسيقى كان بالعزف على الأرغن الكنسي، ثم غيره من الآلات الأساسية، فدراسة النظريات والتأليف. تمكّن من مفاتيح فن الموسيقى قبل بلوغه سنّ الرشد، ولمّا جذبه فن الأوبرا سافر إلى هامبورغ، المدينة الألمانية التي اشتهرت في هذا المجال بفضل صالتها المخصّصة لعروض الأوبرا، وكانت الوحيدة في ألمانيا آنذاك. هناك ألَّف هاندِل أول أعماله الأوبرالية، لكنَّ الظروف أجبرته على ترك المدينة والانتقال إلى إيطاليا. انتهى بذلك الانتقال مشروع ولادة الأوبرا الألمانية (أو الجرمانية) في حقبة الباروك، لأن المؤلف الذي كان من الممكن أن يتولى هذه المهمة، أيّ باخ، لم يكتب أي عملٍ من هذا النوع. بقي هاندِل في إيطاليا أربع سنوات (1706 ــــ 1710) محاولاً تثبيت قدميه بشكل نهائي، فكتب أكثر من أوبرا وبعض الأعمال الدينية التي حققت له شهرة واسعة.
ترك إيطاليا عائداً إلى بريطانيا لسببين: الأول، المنافسة القوية في بلد فيفالدي وسكارلاتي وغيرهما من كبار الإيطاليين. ثانياً، حصوله على عرضٍ مغرٍ للعمل في البلد الذي رأى فيه النور. هكذا راح هاندِل يعمل تحت وصاية الملوك أو لحسابهم، واضعاً أعمالاً من كلّ الأشكال الموسيقية، أبرزها العملان الأوركستراليان الشهيران «ووتر ميوزك» و«موسيقى الألعاب النارية». قبل سبع سنوات من رحيله، فقدَ هاندِل بصره، فحصر اهتمامه بمراجعة بعض أعماله القديمة بمساعدة معاونين مقرّبين منه، وبالعزف من حين إلى آخر على الأرغن. في 6 نيسان (أبريل) 1759، حضر إلى مسرح «كوفنت غاردن» الشهير (ما زال قائماً حتى يومنا هذا)، واستمع إلى أداءٍ لعمله الأشهر «المسيح»، قبل أسبوع واحدٍ من رحيله.
لا شكَّ في أن حذف صفة «إنكليزي» عند الكلام عن مجد الباروك، يعني حكماً انتقال هذا اللقب من هاندِل إلى باخ. مع باخ لا حاجة لتحديد هوية الحقبة الموسيقية التي ينتمي إليها. أما هاندِل، فهو من عيار جان ـــــ فيليب رامو (مجد الباروك الفرنسي)، وأنطونيو فيفالدي (مجد الباروك الإيطالي)، وغيرهما من المؤلفين. وعندما نقول اليوم إنّ هذه الموسيقى أو تلك مستوحاة من الباروك، نعني أن الأسلوب المعتمَد يتبع المدرسة التي أسسها هؤلاء عموماً، أو يقترب من أحدهم بحسب الاختلاف الطفيف الذي يميِّز كلاً منهم عن الآخَر. أما حين نردّ نَفَساً في التأليف إلى مدرسة باخ، فالتوصيف لا يحتمل التفسير... لا معلِّم في مدرسة باخ سوى باخ.