يصعب أن يجد المرء في تاريخ الموسيقى، اسماً يختصر نمطاً. إنها القاعدة. لكل قاعدة استثناء أو أكثر. استثناءات هذه القاعدة واضحة. فإذا قلنا «ريغي» في أي زمان ومكان، الاسم الذي يفرض نفسه مقابل هذا النمط هو بوب مارلي. أما المثل الأوضح في هذا السياق فهو دجانغو راينهارت مقابل ما يُعرَف بالـ«جاز مانوش» (أي «الجاز الرحّالة» إذا صحّ التعبير).
بدأ عالم الموسيقى يُعدّ الاحتفال بالمئوية الأولى لولادة دجانغو (1910 ــــ 1953)، عازف الغيتار المولود في كنف عائلة من الغجر الرُحَّل. وهذه السطور ليست سوى تمهيد يرافق التحضيرات لهذه المناسبة التي لم تعد تخصّ الجاز وحده، بل الموسيقى بعناها الأوسع.
بعد أكثر من نصف قرن على رحيله، ما زال دجانغو راينهارت يتربع على عرش عازفي الغيتار في عالم الجاز. لقد ترك هذا الفنان العُصامي بصمة في تاريخ الموسيقى، تأثر بها عازفو الغيتار على اختلاف توجهاتهم، رغم أنه عاش حياة قصيرة ومليئة بالمعاناة، إضافة إلى أنه كان أمّيّاً، بالكاد يستطيع كتابة اسمه.
ككل الغجر في أوروبا والعالم، عانى دجانغو الاضطهاد. وككل الغجر أيضاً، أحب الموسيقى وأتقن العزف على الغيتار، وكانت بداياته بطبيعة الحال مع التراث الغجري. لكنه فُتِن بموسيقى الجاز التي خاضها انطلاقاً من عالمه الخاص، ليصبح رائدها في فرنسا وحتى في أوروبا التي لم تكن بعد على معرفة بهذا التيار الأميركي.
كمصيبة الطرش عند بيتهوفن، حلت بدجانغو مصيبة من العيار ذاته، عندما اندلعت النار (عام 1928) في المقصورة المتنقلة التي كان يعيش فيها مع زوجته. أصيب يومها بحروق بالغة أدت إلى خسارة إصبعين من يده اليسرى. لم يستسلم العازف الشاب، بل راح يتمرّن ويبتكر أساليب ويطور تقنيات خاصة حتى استعاد مستواه العالي رغم خسارة أعضاء أساسية في العزف على الغيتار.
سافر دجانغو إلى أقطار العالم وأدّى مقطوعات من إعداده. مؤلفاته الكثيرة أصبحت من الكلاسيكيات اليوم. لكنه في المقابل حافظ على شخصيته الغجرية، ورفض الانصياع إلى متطلبات الحضارة. وعلى رغم مآسيه الكثيرة، لم تفارق وجهه ابتسامة مخفية وثابتة، نراها يومياً في منتصف الليل على «ميدزو»، المحطة التلفزيونية التي تأبى أن تعلن عن فترة الجاز من دون دجانغو.