سناء الخوري«هناك شيء ما يغري بالخفّة في بيروت»، يقول أحمد بطل «حبّ بيروتي» (دار الآداب). كلّ شيء في رواية سحر مندور الأخيرة يغرينا بالوصول إلى هذه النتيجة. بيروت والخفّة، كأنّهما البطلتان الحقيقيّتان لقصّة الحبّ التي تحكيها سحر. تفاصيل عدّة في ذلك الشكل الجميل من النميمة والتلصص الذي تقدّمه الروائية في تجربتها الثانية، تجعلنا ننسى لوهلة أحمد وحبيبته ماجدة. يخوض الثنائي العاشق علاقة مفتوحة. يحب بعضهما الآخر، لكنّ كلاً منهما (تأثير منها هي) يخوض في علاقة مع شخص آخر. بعد صولات وجولات مع الغرباء، يعودان مساءً ليخبر بعضهما بعضاً ما فعلا. لعبة ممتعة للقارئ الذي يتتبع مصارحات العاشقين البيروتيين كأنّه في جلسة مفتوحة مع صديق حميم. كتابة سحر تجعلنا نلتقط الخلفيات النفسيّة للثنائي: ماجدة المترددة وأحمد الخائف. وجدت ماجدة في طلب الزواج منفذاً لتسكت قلقاً اعتراها، وفي اقتراح العلاقة المفتوحة وسيلة، قد تبدو لبعضهم ماكرةً، لتسجن حبيبها في لعبتها الأنانيّة. أمّا أحمد فانساق خلف التجربة، كأنّه ليس «شرقياً»: لم يتمسّك بملكه، لم تقتله الغيرة، لم يرفض أن تنام حبيبته في فراش آخر إلا مواربةً. كأنّهما كانا يتباريان من منهما الأشجع في التفلّت من أي التزام. علاقة لا تفضي إلا إلى أسئلة مفتوحة. حين نغلق الكتاب نسأل: ما النتيجة؟ الآن ماذا؟
ومن خلال تلك العلاقة الإشكاليّة، تشرئب المدينة بخفتها اللامتناهية. في رواية «حب بيروتي»، بين المطاعم والمقاهي وكورنيش البحر، بين الشوارع والمنازل والمناطق والعائلات ودرج البناية ومكتبة ماجدة و«ويكيبيديا»، تحشر بيروت رأسها ويديها ورجليها، تمدّ لسانها وتصرخ بوجهنا: «أنا هنا».
إنّها بيروت سحر مندور وجيلها، تلك التي نقرأها هنا وفي كلّ مكان. في الموسيقى والتشكيل والسينما والأدب، بات من الصعب رؤية العاصمة إلا في عيون جيل أحمد وماجدة (وسحر) وأترابهم. هؤلاء الطالعون من رحم الحرب، يقيمون علاقة معقّدة، ملتبسة، بمدينتهم، بين جاذبيّة ونفور. هل هي بيروت، علّمتهم كيف يحبونها ويمقتونها ويخافونها ويخونونها... ثمّ يخبرونها كلّ ذلك في المساء؟
هكذا تتشعّب العلاقة المفتوحة، في بعدها الأفقي بين حبيب وحبيبته، إلى علاقة كلّ منهما كفرد، ببيروت. من هذه الناحية تتحوّل رواية سحر مندور، بأمكنتها وشخصياتها ولغتها تحديداً، إلى وثيقة عن جيل بأكمله، عن همومه ومقاربته للحياة.
هموم جيل فريد، لا يشبه في شيء من سبقه أو من تلاه، ولو بسنوات قليلة. جيل ينقّب عن نتف الحياة بأدوات منحته إياها طفولته في أزقة الموت والاقتتال. جيل يخشى المسؤوليات، يريد أن يعبّر عن نفسه ويخرج ويمرح ويسكر ويكبر بأمان، بعدما توقفت لعبة القتل والعنف والتهجير. جيل تهاوت أمام عينيه الأساطير الكبرى، والأفكار الكبرى، والأحلام الكبرى. جيل ما بعد حداثي بامتياز، يبحث عن نفسه في مدينة تحاول استعادة ذاكرتها المحطّمة: وما إن يقترب منها، حتّى يهرب مجدداً، رافضاً القيود والثوابت. إنّه جيل مسكون بهاجس الحريّة، ويلاحقه الخوف أيضاً من المستقبل.
الثابت الوحيد في كلّ ذلك أنّه جيل بيروتي، مثلما الحب في العنوان. جيل تليق به العلاقات المفتوحة في هذه المدينة المفتوحة للجميع وعلى كلّ الاحتمالات.