في كتابه الجديد، ينقد الباحث المغربي الطيب بوعزة الليبرالية، من خلال مقاربتين: الأولى تتناول أسسها المفاهيمية والمعرفية، والثانية تبحث في تاريخية النسق الليبرالي وسوسيولوجيته
نبيل درغوث
مع سقوط جدار برلين وانهيار المعسكر الشرقي وانحسار الشيوعية الرسميّة، برزت الإيديولوجية الليبرالية «بوصفها النموذج الفكري والسياسي الأقدر على تنظيم المجتمع، وإدارة مشكلاته السياسية والاقتصادية». وتجمع كل القواميس على أنّ الليبرالية، في شقّيها السياسي والاقتصادي، قائمة على الحرية الفردية والجماعية. رغم هذه الواجهة البرّاقة، إلا أنّ الباحث المغربي الطيب بوعزة وضع تلك المنظومة على المحكّ في كتابه «نقد الليبرالية» («البيان» ــــ جدّة).
يقول المؤلف في مقدّمة عمله: «الدافع المسوغ لإنجاز هذا البحث هو الحالة التي يتميز بها المذهب الليبرالي عن غيره من المذاهب السياسية في لحظتنا الراهنة؛ حيث لم تعد الليبرالية اليوم تُقدَّم بوصفها أنموذجاً أو نظاماً سياسيّاً.... بل تكاد تُقدَّم بوصفها الأنموذج الوحيد لتسيير الشأن السياسي والمجتمعي، دونما منافس لها أو بديل!». اعتمد الطيب بوعزة في نقد الليبرالية وتحليلها على منظورين: مقاربة فلسفية تتناول الأسس المفهومية والمعرفية الليبرالية، ومقاربة تاريخية وسوسيولوجية للنسق الليبرالي.
يبحث الكاتب في الفصل الأول دلالة مفهوم الليبرالية، وخصّص الفصل الثاني لبحث الليبرالية كنظريّة سياسية. هكذا، دافع عن أطروحة مفادها أنّ ماكيافيلي مؤسس النزعة السياسية الليبرالية، بفصله بين السياسي والأخلاقي. يقول الباحث: «ولا بد من أن تعترضنا خلال هذا التحليل تلك الفكرة الشائعة عن ماكيافيلي بوصفه داعية استبداد الأمير، ومن ثم سيقول القائل: لا يجوز جعله منظراً ليبرالياً. لذا سنعالج هذا الاعتراض من خلال إعادة تأويل متنه، حيث سنختبر مدى صدقية هذا الموقف الشائع والمكرور في غالبية الدراسات المنجزة عن الفلسفة السياسية لماكيافيلي».
ثم ينتقل الطيب بوعزة إلى بحث الإسهام الفلسفي/ السياسي لجون لوك، فيتوقّف عند بنائه مفاهيم النسق السياسي الليبرالي. وعند هذه النقطة، يكشف عن وعيه بأسئلة البحث المتعلقة بالنسق: «لكن هنا أيضاً لا بد عند بحثنا لهذا النسق من إبراز مفارقات تستوجب التحليل والمعالجة. إذ كيف يمكن التوفيق مثلاً بين أطروحته الفلسفية التجريبية القائلة بالأصل الحسي للمعرفة، وبكون العقل صفحة بيضاء، وبين أطروحته السياسية القائلة بأن الكائن الإنساني يعرف القانون بنور طبيعي؟ كما أن ثمة مفارقة ثانية بين لوك المنظر القائل بحرية الفرد الإنساني، ولوك تاجر الرقيق الذي يمارس الاستعباد ويبرره. ولاستكمال صورة النظرية السياسية الليبرالية، لا بد من بحث مسألة فصل السلطات، وهنا سيكون من اللازم دراسة إسهام الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو والتساؤل عن دوره في بناء المنظور السياسي الليبرالي».
وبعد تحليل الليبرالية لجهة بُعدها النظري السياسي، ينتقل الكاتب إلى بحث بعدها الاقتصادي. هكذا، حلّل مرجعيتها الفكرية لكن من دون أن يختزلها في الاقتصاد السياسي الإنكليزي (عند آدامز سميث ودافيد ريكاردو وتوماس مالتوس) كما هو مسلك غالبية الدراسات، بل استحضر أيضاً مرجعيتها الفيزيوقراطية، وجدلها مع الميركانتيلية.
أما الفصل الرابع، فبحث النيوليبرالية بدءاً من تحليل نشأتها وصولاً إلى اتجاهاتها النظرية التي تبلورت مع المدارس الثلاث، أي المدرسة النمساوية مع كارل منجر، وبون بافريك، ومدرسة لوزان مع فالراس، وباريتو، ومدرسة كامبريدج مع ستانلي جيفنس، وألفريد مارشال. ونظراً إلى محورية مفهوم السوق داخل النسق النيوليبرالي، خصّص له الباحث ما يكفي لتبيان وضعه في الرؤية النيوليبرالية.
ثم إن الليبرالية ليست مجرد نظرية، بل هي منظومة مجتمعية تتجاوز الحقلين الاقتصادي والسياسي إلى حقل الإنسان ببعده الأخلاقي. لذا توقّف المؤلف في الفصل الخامس لمساءلة الليبرالية من حيث علاقتها بالحرية والأخلاق. وفي الفصل السادس، ألقى نظرة على الخطاب الليبرالي العربي بدءاً من لحظة دخول المفاهيم الليبرالية في بداية عصر النهضة العربية، ثم انتقالها إلى الاستواء في شكل نسق مع لطفي السيد، وانتهاءً بتحليل مفاهيم الخطاب النيوليبرالي العربي المعاصر ونقائضه.
الكتاب مهمّ في وقت صارت الليبرالية حسب المؤلف «موضة مسيطرة على الأذواق الفكرية والسلوكية... بوجود قوى دولية مهيمنة تعمل على تشميلها وفرضها نموذجاً مجتمعياً بأسلوب الهيمنة»