خلاصة الأدب هي في قدرته على اختراع وطن مفقود» يقول رولان بارت. عشيّة الانتخابات النيابيّة اللبنانيّة، ذهبنا بحثاً عن ذلك المواطن القابع داخل كل أديب أو فنان. هل يشارك المثقفون في هذا الموعد الديموقراطي؟ ما هي منطلقات كلّ منهم، وكيف ينظر إلى المشهد السياسي المقبل؟
سناء الخوري
تعدنا المشاريع الانتخابيّة المتكررة باختراع وطن مفقود. برامج بالجملة، ومناظرات تلفزيونيّة تستلهم تقاليد الدول الديموقراطيّة العريقة، تنهمر علينا لنصدِّق أنّ هذا البلد سيصبح بعد 7 حزيران (يونيو)، بلداً آخر. نغرق لبرهة في حلم ما بعد الانتخابات المصيريّة كما يسمُّونها: هل حقاً سيغدو بلدنا وطناً، أو لنقل مشروع وطن؟ تفترض الإجابة خيالاً واسعاً، يوغل في ما هو أبعد من صور الحروب والاقتتال والفساد والطائفيّة والشرذمة والديون والمشاهد القاتمة الأخرى المكدّسة فوق ذاكرتنا. «خلاصة الأدب (الإبداع بكلّ أشكاله استطراداً) هي في قدرته على اختراع شعب (وطن) مفقود»، يقول رولان بارت. اختراع حلم مفقود أو ترقيع ماضٍ ناقص، وحتّى كتابة تاريخ موازٍ، تلك حرفة امتهنها الأدباء والشعراء والتشكيليون والمسرحيون والموسيقيّون في لبنان على مرّ العقود. أين هم اليوم من هذا الاستحقاق؟ ماذا يفعل المواطن داخل كل مثقّف وأديب وفنان؟ هل يشارك أم يعتكف؟ هل يسير خلف نهج أو يأخذ موقفاً نقدياً من الجميع؟ هل يشارك في الانتخابات غداً لأنها واجب ديموقراطي، أم يمتنع؟
«ليتني أستطيع التصويت ضدّ الانتخابات»، يقول روجيه عسّاف. يفضّل المخرج المسرحي ألا يضيّع ساعتين من وقته على العمليّة الانتخابيّة، كما يخبرنا. يضيف مع ابتسامة هازئة: «كم هو ثمن هذه الانتخابات، ومَن سيعيد مصاريفها إلى الناس؟ المشكلة أساساً هي في النظام السياسي السيئ. هذا النظام السيئ يركب عليه الآن ما هو أسوأ». يرى عساف أنّ «هناك مواضيع يجب أن تهمّ السياسيين والفنانين، أعمق من مسألة الانتخاب: الهجرة، الانقسامات الطائفيّة، إسرائيل وتهديدها الدائم، مستقبل الشباب في لبنان... إذا اقترعت فهل سيمتنعون عن تحويل «حديقة الصنائع» إلى مرأب؟ هل ذكر أحد المرشحين في برنامجه الجامعة اللبنانيّة والمدرسة الرسميّة؟». أمّا عن التغيير الموعود، فهو لا يقنع عسّاف. «بعد الانتخابات ستتغير الجيوب فقط»، يقول: «أتمنى ألا تتغير أسماء كثيرة، حتّى لا تزيد المصاريف أكثر، فمن سيخرجون من المجلس سيستمرّون بالحصول على مستحقاتهم من الدولة».
الشاعر والكاتب بول شاوول، يقارب الاستحقاق من منطلقات أخرى. إذ يصف صاحب «بوصلة الدم» الانتخابات بالأمر «الأساسي والمحوري والمفصلي والتاريخي. أنا لم أنتخب مرّةً في حياتي، ولو كانت صحتي تسمح، لغيّرت عادتي وانتخبت هذه المرّة». يعتقد شاوول أنّ الانتخابات نقطة انطلاق لتغيير النظام الطائفي إلى نظام علماني، وأنّ كلّ انتخابات هي خطوة مرحليّة تضيف حجراً إلى مدماك بناء لنظام غير طائفي. «البرامج ذرائع، أمّا التحرّك الحرّ والديموقراطي فهو إحدى الوسائل الرئيسية لكسر الواقع، فخرنا أنّ لبنان هو البلد العربي الوحيد الذي نسمع فيه كلمة رئيس سابق».
جوسلين صعب ترى في فعل الانتخاب بعداً أكثر فرديّة: «أن أنتخب أمرٌ يجعلني أعرف إذا كنت مواطنة أو لا. قد أذهب إلى الصندوق بمرارة، لكن يجب أن أؤدي هذا الدور». وقد درست السينمائية اللبنانية المواقف بمجملها، قبل أن تقرر المشاركة: «أعرف أننا بلد طوائف وقبائل. دورنا نحن المثقفين مهمّ جداً، لكننا لم نعد قادرين على أدائه أداءً كاملاً وفاعلاً». صعب تستغرب أن تصبح الملصقات الانتخابيّة أهمّ من البرامج الانتخابيّة. هذه الأجواء تجعلها تتخيل نفسها في فيلم بوليوودي.
جبور الدويهي يعطي للفعل الانتخابي بُعداً رومنسياً. الروائي الذي يسكن التاريخ عوالمه الأدبيّة سينتخب على أمل بسيط، هو «أن يتعدّل ميزان القوى بين الجماعات والطوائف والقوى الإقليميّة والمحليّة». صاحب «مطر حزيران» لا يعيش وهم «أنّ الانتخابات النيابيّة ستغيّر لعبة القوى العالميّة، لكنّها ما يميّز لبنان عن محيطه. على أمل أن يتفرّج علينا المواطنون العرب على التلفزيون، ويرون كيف ندّعي نحن أننا نحسم أمرنا بالاقتراع». لكنّ الدويهي لا يرى أنّ هذا الاستحقاق مصيري. يقول «المصيرية ليست شأناً جديداً على هذا البلد. دائماً نضطر إلى إعادة إنتاج بلدنا من جديد». كارمن لبّس تبدو كأنّها ضجرت من إعادة الإنتاج هذه. ما إن نسألها عن مشاركتها في الانتخابات حتى تبادرنا بالقول: «بصراحة، أتمنى أن أنقع كلّ الطبقة السياسيّة في ماء التوتياء». بطلة «معارك حب» عادت من الخارج أخيراً، لتجد كلّ الطرقات مزفتة. تضحك قائلةً: «كما تكونون يولّى عليكم. تعودنا أنّ ينفّذ كلّ فريق مصالحه، وأنا بكل صراحة لستُ مقتنعة بكلّ هذا الأمر».
من جهته، لن يشارك أسامة بعلبكي في الانتخابات «احتجاجاً على تركيبة المجتمع بكامله. لا أريد المشاركة في هذا الطقس، في خطوة مناهضة لهذه البيئة اللبنانيّة المحليّة التي لا تتضمّن شيئاً منتجاً». يذهب التشكيلي الشاب أبعد من ذلك: «الانتخابات عمليّة استفتاء لقوى محليّة، وليس فيها أي معنىً تنويري، وخصوصاً أنني لم أر في هذا البلد طبقة سياسيّة أتت بمشروع يمثّل قطيعة مع الماضي». لكن أليس للمثقف دور أو مسؤوليّة إضافيّة؟ يجيب بعلبكي: «صوتي لن يكون له أثر إنساني في تغيير مجتمعي. القوى التي يمكن أن تمثّلني أنا اليساري غائبة، وليس هناك ممثل على الساحة السياسيّة». هكذا يفضّل بعلبكي أن يؤدي دور المراقب، هو الذي يرى أنّ «جيل الشباب اللبناني أكثر رجعيّة من الكبار وأكثر ميلاً إلى العنف. على المستوى الروحي والثقافي، هم مجرّد وقود لأمراء الطوائف». دوره مراقباً يجعله يستبطن مصادر إلهام حقيقيّة. «كل أزمات هذا المجتمع، مادة مثمرة لي. أنا أعمل على حافة الأزمة، ومعالم القسوة ملهمة لأعمالي ذات الطابع السوداوي الذي يميل إلى الحس الملحمي ويستفيد من خطوط القسوة والتأزم».
عند هذه النقطة تتقاطع رؤية بعلبكي مع رؤية التشكيلي جان ـــ مارك نحاس. يقول هذا الأخير: «أعترف بكلّ أنانيّة بأنّ هذه الأجواء الانتخابيّة تتحوّل إلى مادّة حقيقيّة لعملي الفني. أنا في الحقيقة أستمتع بهذا الجوّ، ويصبح لديّ ما أتكلّم عنه». أمّا بالنسبة إلى مشاركته في الانتخابات فيقول: «كلّ هذه المعمعة تخلق لديّ شكاً. لا شيء يجعلني أقتنع بنهج ولا مشاريع واضحة». ويضيف: «كلّ هذا الضغط الانتخابي ليس له أي معنى، فهو نوع من العنف الإضافي غير الضروري للشعب».
الروائيّة علويّة صبح بدورها، لا تعتقد أنّ الاستحقاق النيابي مفصلي. «المشكلة في النظام وفي قانون الانتخاب الذي كرّس المذهبيّة والطائفيّة. برأيي، بعد الاستحقاق قد نطلّ على أزمة حكم». بالنسبة إلى صاحبة «مريم الحكايا»، فإن العمليّة الانتخابيّة عمليّة عقيمة، «فالدول التي تجري انتخابات حقيقية تغير سياستها ولا تغيّر هويّة الوطن، كما يحصل عندنا»، وتضيف: «لن أنتخب، فهذا موقف من قانون لا ينتج مواطناً ولا مواطنيّةالشاعر أنطوان أبو زيد، يأخذ من جهته أيضاً موقفاً نقدياً، انطلاقاً من رؤيته لدور المثقف في الأساس. يعتقد أبو زيد أنّ «على المثقف أن يكون صاحب نظرة نقديّة فلسفيّة، تسعى إلى تغيير الواقع. في بلادنا لا تقوم التقسيمات السياسيّة على أساس الأحزاب، يميناً ويساراً ووسطاً إلخ، لهذا، سأشارك في الانتخابات على أساس اختيار أشخاص، لا على أساس الاصطفافات». أما غسان سلهب، فغير مقتنع كثيراً بكلّ هذه الانتخابات. يخبرنا السينمائي اللبناني بأنّه لن يَنتخب لسببين: «أولاً، الوطن لي فكرة فقيرة وترخِّص الإنسان. وثانياً فريق 14 آذار و8 آذار و50 آذار، وكلّ هذه الفرق لا تعنيني». لكن هل تكون هذه الانتخابات وسيلة عبور نحو وضع جديد؟ «لن تغيّر الانتخابات أي شيء. المشكلة أنّه يجب أن نفكّر الماضي، قبل أن نفكّر الحاضر والمستقبل»، يقول سلهب.
«الأشغال كلها واقفة في هذه الفترة، والجميع ينتظر إلى ما بعد الانتخابات» تقول الممثلة رندة أسمر التي ستشارك في الانتخابات، فهي «معنيّة مثل الجميع. أريد أن أمارس حقّي الانتخابي لأنه واجب، مثلما أمارس واجبي في دفع الرسوم البلديّة والكهرباء...». هل تقنعها البرامج الانتخابيّة؟ تنتفض مجيبةً: «فليخفّف المرشحون قليلاً من وقاحتهم. أولاً، الإعلانات الانتخابيّة كلّها تعدٍّ على الناس وإزعاج. ثانياً، الجميع يتحدثون عن الوطن المثالي، لكن ليس هناك أي برامج».
من جهته، لا يبدو السينمائي جان شمعون متحمساً للانتخابات، رغم أنّه ينتخب في زحلة. يقول: «ليس الأمر تشاؤماً، بل طموح أبعد مما يقدّمه أغلب المرشحين. جزء كبير من الوجوه ماضيه معروف، والسؤال من هو القادر على تقديم رؤية جديدة. للأسف كل الممارسات السياسية تتكرر باستمرار، وأنا أطمح إلى بناء مجتمع ونظام جديدين». وكيف ينظر إلى المشاريع الانتخابيّة المطروحة؟ يجيب: «في الإعلانات الانتخابيّة الكبيرة، هناك تضخيم للأمور، والجمل أصبحت مستهلكة. هذا يشبه القرون الوسطى».
رئيس تحرير «الآداب»، الكاتب سماح إدريس، يعلن خياره بكلّ صراحة: «لو كنت ابن البقاع لصوّت لفاروق دحروج، ولو كنت ابن الجنوب لاخترت سعد الله مزرعاني، ولأنني ابن بيروت سأصوّت لنجاح واكيم وإبراهيم الحلبي». إدريس يصرّ على الخيار اليساري رغم مواقفه المبدئيّة من النظام الحالي: «من حيث المبدأ كنت ضدّ المشاركة في الانتخابات، لأنها مبنيّة على قانون باطل ورجعي ومتخلف يحرم الشباب من المشاركة، ويكرّس التقسيم الطائفي (...). لكنني وقعت شخصياً في حيرة، لأنّي لا أستطيع أن أرى القوى اليساريّة تخوض معركة ضدّ قوى الإقطاع والرجعيّة من دون أن أتدخل، فاضطررت إلى أن أشارك وأقترع دعماً لقوى اليسار التي تمثّل جزءاً من المعارضة الملتبسة».
الشاعرة جمانة حداد ستشارك بدورها في الانتخابات، «ليس عن اقتناع مطلق بمن سأنتخب، لكن لأعبّر عن رفض للطرف الثاني المقابل. إنّه «تصويت ضدّ» لا «تصويت مع»». صاحبة «عودة ليليت» لا تؤمن بدور خارق للمثقف، بل تقول إنّ «المثقّف مواطن لا أكثر ولا أقلّ. لا دور إضافياً له، وفي الانتخابات، المواطن هو البطل الحقيقي».
من جهتها، تعتقد المخرجة نضال الأشقر أنّ «المثقفين والفنانين، رغم هذا النظام القديم والمهلهل والمفتَّت، لا يمكن إلا أن يشاركوا في الانتخابات». وتقول إنّه «رغم أني لا أؤمن بهذا النظام، وأسعى إلى أن يكون لبنان كلّه دائرة واحدة، تحت نظام النسبيّة، إلا أنني أعتقد أنّ هذه الانتخابات قد تحمل أملاً بالتغيير. وهذا التغيير للأسف لا يعني تأييد دور الشباب. برأيي، الشباب هو الشباب الواعي، لا الشباب الفاسد، شباب الوراثة والتعصّب والعنصريّة. جدّي كان منفتحاً أكثر من هؤلاء». وتقول أشقر بحماسة: «بعض ممن نراهم على الشاشات يخوّفون الناس من ولاية الفقيه ومن حزب الله، هم أمراء حرب، وغيّروا بندقيتهم من كتف إلى كتف ألف مرّة».
كلام المثقفين في السياسة، من النادر أن نسمعه في الفضاء العام... وما سمعناه يكشف عن أزمة في صميم نظام سياسي لا ترى النخبة أنّه يمثلها فعلاً. بعضهم قد يشارك في الانتخابات، بعضهم قد يقاطع، لكنّ غالبيتهم كفرت بالنظام، بتركيباته وبقبائله. والنتيجة أننا جميعاً في الرحلة ـــــ الشاقة والسيزيفيّة ـــــ نفسها، على طريق الوطن المفقود.


■ بعض المثقفين والأدباء الذين اتصلنا بهم امتنعوا عن الإدلاء بآرائهم. نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: عباس بيضون، ورشيد الضعيف، وإلياس خوري، وحسن داوود، وعقل العويط، وعناية جابر. هناك من رفض فكرة المشاركة في «استطلاع»، ومن رأى أنّ مساحته هي الأدب، وليس دوره إطلاق تصاريح انتخابيّة... وهناك من قرّر مقاطعة «الأخبار» بسبب موقف مسبق ينحو إلى السلبيّة. غياب هؤلاء أفقد القارئ فرصة الاطلاع على آراء قيّمة، كانت ستسهم في إغناء مساحة أردناها، عشيّة الاستحقاق الانتخابي، لقاء بين مختلف الحساسيات والمواقف، انطلاقاً من إيماننا بدور الأديب والكاتب والشاعر في تقويم الحراك السياسي، بل في إعادة صياغته.