يسلّط المسرحي والسينمائي الضوء، من خلال صاحب «امرأتنا في الشريعة والمجتمع»، على حقبة الثلاثينيات التي تعتبر عصراً ذهبياً في مسار الفكر التونسي
تونس ــــ نبيل درغوث
«مهرجان الفيلم العربي» في روتردام الهولندية، يفتتح غداً دورته التاسعة بشريط تونسي يعود بنا إلى مرحلة خصبة في تاريخ هذا البلد الذي تميّز طويلاً بتعاطيه العصري والتقدمي والمنفتح مع الدين الإسلامي. «ثلاثون» للفاضل الجزيري، يسلّط الضوء على فترة تاريخية هي الثلاثينيات التي يمكن اعتبارها العصر الذهبي في الفكر التونسي. وجاء الفيلم بمثابة موقف للمخرج الذي يرى أنّ هذه الفترة حملت إرهاصات الحداثة في تونس وتمثّلت طلائعها في الطاهر الحدّاد ومحمد علي الحامي وأبو القاسم الشابي والحبيب بورقيبة وعلي الدوعاجي... وإن كان التركيز على مسيرة الطاهر الحدّاد الذي سبق قومه بقرنين وفق عميد الأدب العربي طه حسين. اعتمد العمل أسلوباً انتقائياً، يلتقط اللحظات النّابضة من مسارات تلك الرموز الأدبيّة والفكرية والسياسية التي تشترك مع الطاهر الحدّاد في النضال الوطني والفكري. والفاضل الجزيري ليس غريباً عن الفنّ السابع، وإن كان اسمه اقترن بنهضة المسرح التونسي مع «المسرح الجديد» أولاً، ثم منفرداً في تجارب استعراضيّة ضخمة تعيد قراءة التراث. عهده بالسينما يعود إلى أيّام «المسرح الجديد» حين أعيدت صياغة مسرحيّة «العرس» في شريط استثنائي (1977) ما زال في الأذهان. وتكررت التجربة مع فيلم «عرب» عن مسرحيّة له مع الفاضل الجعايبي (1988). تجارب عدّة لاحقة أخذته إلى عالم السينما، بحثاً عمّا يسمّيه «الفيلم الجديد»... وها هو يحمل تجربته إلى موعد عربي أساسي في أوروبا، تحتضنه روتردام حتى 14 الجاري.
يعرض الفيلم، بإيقاع سريع متلاحق، يوازي سرعة تحولات تلك الحقبة من تاريخ تونس، مسيرة الطاهر الحدّاد (1899 ـ 1935) في العقد الأخير من حياته، حين خرج عن الحزب الحرّ الدستوري التونسي (القديم)، وانشغل بالحركة النقابية مع صديقه محمد علي الحامي (1890 ـ 1928) الذي جاء بأفكار لا تتسع لها تونس في تلك الفترة. هكذا استعاد الفيلم تأسيس أول منظمة نقابية تونسية عام 1924، وهي «جامعة عموم العملة التونسية». وتقاطعت مسيرة الحدّاد في الفيلم مع مسارات شخصيات أدبية طبعت بحضورها وإبداعاتها فترة الثلاثينيات كالشاعر أبي القاسم الشابي (1909 ـ 1934) الذي تحتفل تونس بمئويّته هذا العام. ويصوّر لنا المخرج مشهد إلقاء الشابي محاضرته الثورية التي قلبت المفاهيم يومها حول الخيال الشعري عند العرب، في المكتبة الخلدونية وهو يتمشى بين الحاضرين كأنّنا أمام عرض من المسرح الإغريقي. هذا المشهد يحمل بصمات المعالجة المسرحيّة العزيزة على قلب الجزيري، ليس فقط في طريقة التمثيل، بل في الكتابة نفسها. واستغرب بعضهم طريقة تناول الجزيري لعلم من أعلام الأدب التونسي الحديث هو علي الدوعاجي (1909 ـ 1949)... إذ صوّره عربيداً وسكيراً وزير نساء، من دون أن يسلّط الضوء على كتاباته الأدبية الطليعيّة التي تعبّر عن واقع الطبقات المسحوقة آنذاك.
ويتواصل مسار الطاهر الحدّاد بنضاله الإصلاحي على المستوى الاجتماعي والفكري عبر كتابه «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» (1930) الذي ناصر فيه قضية سفور المرأة، ولقي مناهضة كبيرة من عناصر الحزب الحرّ الدستوري (القديم)، وثلّة من أقطاب الرجعية الفكرية كالنظارة العلمية لجامع الزيتونة التي جرّدته من شهاداته العلمية. ومنعه شيوخ مرموقون حينها من الزواج والعمل، بل طالبوا بإخراجه من «الملّة» ليكون شهيد الحق والواجب حسب عبارة الهادي العبيدي.
وتطرّق المخرج إلى شخصية السياسي الحبيب بورقيبة (1903 ــــ 2000) الرئيس الأول للجمهورية التونسية بين 1957و1987، في مقدمات صراعه مع قيادات الحزب الحرّ الدستوري (القديم) لينشقّ لاحقاً ويؤسّس الحزب الحرّ الدستوري الجديد. وقد أبدع الجزيري في تناوله شخصية بورقيبة في شبابه. ولو اعتمده شخصيّة مركزيّة ثانية، لكان شكّل مع الطاهر الحدّاد قطبي رحى الفيلم، فبورقيبة امتداد مستقبلي لفكر الطاهر الحدّاد.