بيار أبي صعب (إلى جوزفجاءت بدفتر وقلم: بابا ارسم لي وطناً. الوطن لا يُرى قال لها. تحجبه الجموع الهائجة. الوطن وهمٌ يفلت منا مرّة أخرى. فيه أبطال بقدر ما فيه خونة. الوطن مستودع بارود، كلّ عابر سبيل في وسعه أن يرميه بعود ثقاب. تكتّل مصالح وتحالف بارونات، وتآلف طوائف ومافيات. مرتزقة وضحايا. عملاء وشهداء. قتلة (لا نعرفهم) وقتلى (يقودون المسيرة). نظرَ البابا إلى الصغيرة، فلاحظ من استدارة عينيها أنّها لا تفهم. لا يهمّ. الوطن يصنعه التلفزيون لا كتب التاريخ. وطن من الزمامير والجنازات، والدواليب المطاطيّة المشتعلة، وبعض الشعارات... ديموقراطيّة الرعاع والزبائن، الرعايا والقطعان وطائرات الشارتر.الوطن برج بابل. «قرطة عالم مجموعين». ونخبة لامعة تمارس البزنس والعلاقات العامة، وتتقن اللغات. وتمتلك أجمل السيارات، وباسبورات من شتّى الألوان.
الوطن؟ منتجع اصطيافي. يأتونه في العطل الطويلة كي يتعرّف الصغار إلى «جذورهم». هل هناك ما هو أجمل من زيارة أرض الأجداد، وتذوّق مأكولاتهم وتقاليدهم الأصيلة؟ الوطن كاباريه، لكلّ الأحبة والجيران، «بابه مشرّع عَ الميلين». شبكات جواسيس عَ مدّ عينك والنظر. آه، الوطن هو «القضية» أوّلاً. كدت أنسى القضيّة، قال. كان ينظر إلى مكان غامض. «القضيّة» ذريعة لكل أشكال الفساد والفتنة والتسلّط. وطن الحريّة والكرامة والسيادة. وطن لكلّ أبنائه أكيد. موئل الحضارة، منه سافرت الأبجديّة إلى الدنيا. وماذا بعد؟
الوطن عصبيات وانتهازيات لا تحصى. قطعان من العميان يسوسهم قراصنة ومصّاصو دماء وعملاء مزدوجون. جنازات وصراخ. كذب، كذب، كذب. وخوف. وطن الخوف. خديعة كبرى. وطن من المخدوعين.
الوطن هديّة مسمومة، كنت أتمنّى أن أجنّبك إياها يا حبيبتي. نظر إليها، كانت تبتسم برقّة، وتبذل جهداً كي تخفي علامات الشفقة والتعاطف. هي لا تريد أن تجرح مشاعره. مضت إلى أخيها الأصغر، وهمست بالإنكليزيّة: لا تصدّقه. البابا زعلان، وحين يزعل يبالغ في تشاؤمه ويضخّم الأمور. أنا واثقة من أن الوطن شيء آخر.