واقعيّة شعريّة تؤسس للسينما الجزائريّة الجديدةالجزائر ــــ ياسين تملالي
لا يسعنا ونحن نشاهد «قبلة» (Gabbla, Inland)، ثاني أفلام طارق تقية الطويلة، سوى إعلان ميلاد سينما جزائرية جديدة استكملت قطيعتها مع «الثوابت الفنية» لعشرية الألفين ومواضيعها المباشرة: العنف السياسي، الإرهاب، الحركة الإسلامية... في نظر هذه السينما الجديدة، ليست الأفلام الجميلة بالضرورة حكايات صراع بين «أخيار» (ديموقراطيين) و«أشرار» (إسلاميين) تختتمها عبَرٌ رومانسية، وتتخلّلها مشاهد طبيعية آسرة. لا أخيار ولا أشرار في «قَبلة» («الجنوب» باللهجة الدارجة)... بل تساؤل عن مصير «الإنسان الجزائري» في مواجهة الزمان والمكان وآلة التاريخ التي لا ترحم. تساؤل وحّدَ وجوهَ الواقع المعقّد في لوحة كبيرة ورسمَ ـــــ انطلاقاً من مآسٍ فردية وجماعية ـــــ معالمَ «مأساة وطنية» أليمةهذه قصة «قبلة» في سطور: يغادر المهندس التوبوغرافي مالك (قادر أفاق) مدينته وهران، ويرحل إلى أحد أصقاع الجنوب الغربي النائية، يكتشف ريفاً منعزلاً استعادَ صمته الأزلي بعد عقد من الدمار والتفجيرات. هناك يلتقي العديدَ من الناس: قرويين معدمين، ورجال شرطة متسلّطين وشبّاناً عازمين على إشعال انتفاضات جديدة. يؤوي مالك، مهاجرةً سريةً أفريقية (إيناس روز جاكو) تحلم بالعودة إلى بلدها، بعدما قُتل رفاق دربها في انفجار لغم قديم. يسير معها على طريق حب غامض، يمتزج فيه التعاطف الإنساني برغبته في الهرب من حياة تدور يومياتها بين جبال مقفرة ومسكن ضيق مشؤوم هو عربةٌ مهجورة خضّبتها دماء مهندسين سبقوه إلى المكان ذاته. هكذا يمّم مع صديقته شطر بلدها، جنوباً. تبقى نهاية الفيلم مفتوحة فلا يعرف المشاهد ما سيؤول إليه سفرهما الطويل.
الفيلم من أوله إلى آخره قصةُ فرار مستمر: من المدينة وعقم نخبها، ومن أرياف تلفت النظر إلى تهميشها بانتفاضات مدمرة عمياء. منظار طارق تقية الداكن يرينا الجزائر «كما هي»، من دون مساحيق: المافيات الجديدة المتحكّمة (رئيس مالك)، المثقفون المنغلقون في أبراجهم المنيعة، المدن وما تحفل به من دواعي هجرانها، ومساحات شاسعة تحوّلت إلى معابر للقطيع البشري البائس الهارب من جنوب الصحراء...
نجح طارق تقية في تصوير الجزائر الحالية بطريقة يندر العثور عليها في سينما السنوات الأخيرة: النهب الليبرالي متواصل، لكن بقيةً من أنفة قديمة تغذي التصدي لآلة العولمة المجنونة. في الفيلم، أمثلة كثيرة على هذه الأنفة المتوارثة: عدم اكتراث السكرتيرة لأوامر مديرها، مزيج من التحدي واللامبالاة يستقبل به مالك الشرطة، رغم عزلته... السلطة تدرك أنّ طاقة المقاومة قد تتحول في أي وقت إلى ثورة عارمة. لذا نرى الشرطة تتحدث إلى الناس لا كضحايا، بل كخصوم تستَفزّهم.
في هذا البلد الذي ينذر كل ما فيه بانفجار عدمي لا يُبقي ولا يذر، نصب طارق تقية مرصده. نصب «مرقباً» لا محكمة، فتراه لا يعلّق على ما يراه، متجنّباً الخطابات الجاهزة التي تزداد تبسيطاً كلما ازداد الواقع تعقيداً. هذا التوجس من «التعليق على الواقع» جعل من «قبلة» فيلماً شبه خال من التذكيرات المألوفة بمأساة التسعينيات، و«الحرب على الإرهاب». لا يعني ذلك أنّه لا يتطرق إلى سنوات الجمر، بل يتعرض لها تلميحاً، من خلال انفجار ألغام منسية تقتل مهاجرين أفارقة، ما يُعد رمزاً بليغاً لعواقب الحرب الأهلية غير المتوقعة.
من الواضح أنّ ما كان يهم صاحب «روما ولا أنتوما» (أي: المنفى ولا وجوهكم ــــ 2006)، لم يكن أزمة التسعينيات، بل الحرب التي هي بصدد تحويل الجزائر إلى ضاحية من ضواحي العالم المعولم، يعيش مركزها على استغلال أطرافه واستعبادها. نادراً ما صُوِّر ما تسميه الصحافة «الجزائر العميقة» ـــــ تلك التي حرّرت البلاد من الاستعمار، ثم انزوت وراء هضابها وجبالها العالية ـــــ بهذه الصورة التي تظهر حقيقتها الملأى بالمفارقات. حقيقة يلخّصها أحد المشاهد البليغة: قطيع من البقر يعبر مراعي خضراء تحولت أطرافها إلى مزبلة كبيرة.
وصف الكاتب سفيان حجاج «قبلة» بأنه «أحد الأعمال الفنية الجزائرية التي يمكن أن تقارن برواية «نجمة» لكاتب ياسين». لا ندري إذا كان فيلم طارق تقية سيحظى بخلود «نجمة» النسبيّ نفسه، لكنّنا لن نعدم أسباباً لمقارنته بها: الأوّل شكله غير الكلاسيكي، والثاني طول بعض أجزائه ـــــ المفرط أحياناً ـــــ الذي يذكِّرنا بـ«مللنا الرائع» (التعبير لكونديرا متحدثاً عن توماس مان) لدى قراءة بعض أجزاء «نجمة»، والثالث وضوح طابعه السياسي من دون انحطاطه إلى درك الخطابات الفجة، والرابع واقعيته الذكية التي ترفض التضحية بالجماليات على مذبح «المفهومية»، ولا ترى الواقع كتلةً واحدة سهلة الإدراك، بل «أرخبيلاً» من المعاني المحتملة المتشابكة.
هذا المزيج من الشاعرية والواقعية الذكية، أهم ما يقرّب بين «قبلة» و«نجمة». «نجمة» قصيدة تحدثت بالروعة ذاتها عن الحب وانتفاضة 8 أيّار/ مايو 1945 من أجل الاستقلال، وأزمة الريف قبيل اندلاع ثورة التحرير. و«قبلة» قصيدة متشائمة عن جزائر الألفين، وفقت توفيقاً جميلاً بين «واجب الحقيقة» و«واجب الجمال».