تلميذ يوسف شاهين يحنّ إلى زمن عبد الناصر، ويرثي الخراب الروحي والأخلاقي الذي فتك بمصر. لكنّ الفيلم الذي أراده عن «الإنسان الطيّب» يضيع في زحمة المشاغل
زياد عبد الله
رجال الدين والأزهر ناشدوا الرئيس حسني مبارك التدخّل لمنع عرض «دكان شحاتة» الذي ترافق مع جدل كبير وغيره مما تعوّدنا أن تثيره أفلام خالد يوسف... وجاء ردّ المخرج ليضيف الضجّة واللغط حول فيلمه. لكن ماذا عن السينما؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من أن نضع جانباً كل أصداء النقاش الدائر. صحيح أن الفيلم جاء محمّلاً بكل ما يُغضب حراس الأخلاق الأشاوس. هؤلاء لن يروا في العمل سوى سيقان هيفا وهبي، التي شتّتت المتصوّفة عن الذكر، ولن يتوقفوا سوى عند السلفيّين الذين يظهرون ضمن الفوضى التي ستعم القاهرة عام 2013... وغير ذلك مما سيدفعنا إلى خلاصة فنيّة مفادها أنّنا أمام كشري سينمائي!
يسعى خالد يوسف إلى تقديم ملحمة شعبية، بملامح شبه أسطورية، تستدعي قصة يوسف وإخوته، مع مقولات سياسية، وجردة حساب للمتغيّرات الاجتماعية التي طرأت على مصر بعد عبد الناصر... كل ذلك يجعلنا نجد أنفسنا أمام شريط يترنح تحت ثقل خطابه وما يود تقديمه. العمل يبدأ من لحظة خروج شحاتة (عمرو سعد) من السجن، ومشاهدته فقراء يقطعون الطريق على قطار، ويسطون على حمولته. ثم تطفو على الشاشة قصاصات صحف، وصور وثائقية، تستعرض أحداثاً مفصلية في تاريخ مصر والعالم العربي مثل اغتيال السادات، غرق العبّارة، حذاء منتظر الزيدي... ثم يمضي الفيلم في «فلاش باك» طويل مطعّم بالأحداث السياسية.
قصة شحاتة ودكاّنه، تبدأ مع والده (محمود حميدة) الذي يعمل بستانياً لدى أرستقراطي ذي ميول يسارية (عبد العزيز مخيون)، ويهبه الأخير دكاناً وقطعة أرض صغيرة حول الفيلا التي يسكنها... ليصير «دكان شحاتة». ويسعى يوسف إلى بناء ملحمته الشعبية حول علاقة الوالد بشحاتة، وتفضيله إياه على إخوته. ومع موت الأب، يستفرس هؤلاء الإخوة عليه. أمّا شحاتة، فهو مثال للإنسان الطيب، وإن بدا أحياناً أقوى رجل على وجه الأرض، جاهز للتعامل مع كل أنواع البلطجة. لكن الطيبة تمنعه من الانتقام من إخوته الأشرار الذين يزجّون به في السجن، ويبيعون الدكان بعدما تحوّلت الفيلا إلى سفارة... إسرائيلية! إلى جانب ذلك، هناك قصة حبّ بين شحاتة وخطيبته بيسة (هيفا وهبي) يكون مصيرها الفشل... أولاً بسبب أخ بيسة (عمرو عبد الجليل)، ثم حبس شحاتة و«سطو» أحد إخوته عليها!
تتكوّن شخصية شحاتة من ثلاثة مستويات رمزي وواقعيّ وملحميّ. لكن السيناريو لا يدعك تركن إلى واحد منها، رغم أن طموحه يتمثل في تقديم أسطورة الإنسان المصري الطيب. وسط هذا الاضطراب، يأتي حبّ البطل لبيسة حاملاً تلك القيم التي كانت هيفا ذات قدرة استثنائية على القضاء عليها، عبر أدائها الجامد والمحايد، وتقديمها على أنّها نموذج المرأة الشعبية الطيبة التي تنضح بالغواية. لكنّ الغواية تنتصر ويستسلم خالد يوسف لهذه الحقيقة، ويستثمرها في لقطات تهبط علينا من حيث لا ندري.
في فيلمه، يؤكد السينمائي المصري الذي بدأ مساعداً ليوسف شاهين، على ناصريته. وتقوم نظرته النقديّة للواقع السياسي الاجتماعي، على مقولة أنّ الخراب الذي حل بمصر بدأ مع السادات، كما يرِد على لسان الشخصيّة التي يؤدّيها مخيون. يحاول الفيلم رصد هذا الخراب وصولاً إلى استباحة البلطجية والسلفيين لـ«مصر» كما نشاهد في آخر الفيلم الذي يصل بنا فجأةً إلى عام 2013.
في النهاية، الفيلم مبنيّ على الحنين إلى زمن الإصلاح الزراعي، وصورة عبد الناصر التي يضعها شحاتة على شق في الجدار لكنّها تعجز عن سدّه. إنّها إشارة واضحة في خطاب الفيلم إلى عمق الشرخ الذي تعيشه مصر اليوم بحكم الانهيارات الكثيرة التي تبعدنا تماماً عن زمن عبد الناصر. لكن «دكّان شحّاتة» انساق خلف خطوط درامية مختلفة، بدّدت مطمح خالد يوسف إلى تقديم ملحمة توثّق ـ وفق رؤيته ـ لكل ما لحق بمصر على جميع الصعد، وحالات الانحطاط السياسي والأخلاقي التي نتجت منها.