الاحتلال يكتب تاريخنا ويربّي أجيالنا الجديدة

بمبادرة من «الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل» و«مركز القطان للبحث والتطوير التربوي» و«مركز إبداع المعلم»، أقيم في رام الله يوم دراسي عن «التعليم في فلسطين بين صناعة السلام وثقافة المقاومة». رصد المشاركون «شرعنة الرواية الصهيونية» عبر القنوات التربويّة المختلفة

القدس ــــ نجوان درويش
«السلام هو محو فلسطين لدى الأجيال الجديدة». قد تكون هذه العبارة من أخف وأبسط ما قيل في اليوم الدراسي «التعليم في فلسطين بين صناعة السلام وثقافة المقاومة» الذي نظمته أخيراً في رام الله «الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل» و«مركز القطان للبحث والتطوير التربوي» و«مركز إبداع المعلم».
مداخلات وشهادات شخصية على قدر كبير من الجرأة، قدَّمها ثمانية أكاديميين وباحثين في ثلاث جلسات محورها العملية التعليمية الفلسطينية بعد «اتفاقية أوسلو»، آخذين في الاعتبار أنّ صناعة (تجارة) «السلام» بدأت قبل أوسلو، وازدهرت بعدها مشاريع كان «أخطرها تلك الداعية إلى بناء السلام من القاعدة إلى القمة»، والهادفة إلى التأثير على العملية التربوية الفلسطينية شكلاً ومضموناً «بضغط ودعم من أطراف خارجية ـــــ أوروبية وأميركية، وبتساوق مع أطراف داخلية» (لعلَّ السلطة الفلسطينية أقوى هذه الأطراف).
الهدف الاستراتيجي لتلك المشاريع هو «تطويع الذاكرة الفلسطينية المعاصرة لتقبّل الرواية الصهيونية، والتعايش مع واقع الاضطهاد الناتج منها». سلام السيّد والعبد، في صيغته الإسرائيليّة ـــــ الغربيّة، جعل عبارة «السلام» في سياق «العملية السلمية» كلمةً لا أخلاقية مرتبطة بالغشِّ والتمويه ومَكْيَجَة الاحتلال، ومساواة الجلاد بالضحية، بل مطالبتها بالاعتذار إليه عن أيَّ مقاومة أبدتها في الماضي.
عن «التاريخ والسردية وتعلّم المضطهَدين في ظروف الاضطهاد» دارت الجلسة الأولى مع مالك الريماوي وجاكلين صفير وفؤاد مغربي وجابي برامكي. في جلسة أخرى، دار النقاش في شأن «دور التعليم في فلسطين في تعزيز التحرر ومواجهة التطويع: تجارب من مناطق فلسطينية مختلفة». هنا، تحدثت فاطمة القاسم عن تجربتها المريرة في التدريس مع المناهج والمؤسسة التعليمية الإسرائيلية في فلسطين المحتلة عام 1948. من جهتها، قالت رنا النشاشيبي إنَّنا «نمرّ الآن في مرحلة سفاح قربى. حين كان المغتصب معروفاً (الاحتلال)، كان الوضع أقل سوءاً». بحسب أستاذة علم النفس في جامعة بيرزيت، فإنّ «دايتون الآن في رام الله لتدريب الذين قد يؤذوننا أكثر من أي احتلال، (...) والخطة الممنهجة الآن تقتضي أن نقوم نحن بإيذاء أنفسنا»، علماً بأنّ كيت دايتون هو المنسّق الأمني الأميركي لدى السلطة الفلسطينية.
وفي جلسة «صناعة السلام وثقافة المقاومة في ظل الاحتلال»، تحدّث عمر البرغوثي وإصلاح جاد من «الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل» وأدارها كاتب هذه السطور. حلّلت إصلاح جاد نموذجاً لأحد المشاريع التربوية، وهو «معهد دراسات السلام في الشرق الأوسط» (Prime) الذي تأسس عام 2002 ويهدف إلى «تعلم الرواية التاريخية للآخر: الفلسطينيون والإسرائيليون»، أو «منهج الروايات المتعددة لجوانب الصراع العربي الإسرائيلي». يسعى المعهد، وفق جاد، «إلى شرعنة الرواية الصهيونية عن طريق مساواتها بالرواية التاريخية للقضية الفلسطينية، وترويج الرواية الصهيونية للصراع بين صفوف الفلسطينيين، وخاصة المدرسين والطلبة».
أما عمر البرغوثي، فرأى أنّ «أخطر عناصر صناعة السلام هو المحاولات الحثيثة لـ«تغييرِ وعي المضطَهدين، لا الوضع الذي يضطهدُهم ـــــ إذا استعرنا مقولة سيمون دو بوفوار ـــــ وأهم قطاع في هذا المجال هو قطاع الطلبة والتعليم». استند البرغوثي في مداخلته إلى تعريفِ التطبيع الذي أقرّته مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني: «التطبيع هو المشاركة في أي مشروع أو مبادرة أو نشاط، محلّي أو دولي، مصمّم خصوصاً للجمع (سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة) بين فلسطينيين (و/ أو عرب) وإسرائيليين (أفراداً كانوا أو مؤسسات) ولا يهدف صراحة إلى مقاومة الاحتلال أو فضحه وكلّ أشكال التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني. وأهم أشكال التطبيع هو تلك النشاطات التي تهدف إلى التعاون العلمي أو الفني أو المهني أو النسوي أو الشبابي، أو إزالة الحواجز النفسية».
هذا التعريف على جدارته يختلف عن مفاهيم التطبيع ومواجهته خارج فلسطين المحتلة، أي في البلدان العربية، تماماً كما يختلف مفهوم «مقاطعة إسرائيل» الذي تتبنّاه «الحملة الفلسطينية» عن مفهوم «مقاطعة إسرائيل» الذي تبلور عربياً منذ 1948، وحتى قبل ذلك بقليل (يمكن الرجوع إلى كتاب هاني الهندي «المقاطعة العربية لإسرائيل» ـــــ مركز الأبحاث/ منظمة التحرير الفلسطينية ـــــ 1975).
هذه الاختلافات في مفاهيم المقاطعة جديرة بنقاش معمّق، كي نعرف أين نقف اليوم ومعنى مقاومتنا وأين نحن من مفاهيم كـ«تحرير فلسطين» و«تفكيك إسرائيل». المقاطعة التي تتبنّاها مؤسسات غربية/ أوروبية ـــــ على أهميتها ـــــ تنطلق مما بعد 1967 فقط، وهي بالتالي غير مقنعة كفاية لأغلبيّة العرب والفلسطينيين الذين ما زالوا يرون في «إسرائيل» مشروعاً استعمارياً لا حقّ له في الوجود على أرض فلسطين العربية المحتلة منذ 1948. بالطبع، نحن لا نتحدث هنا عن مواقف الأنظمة و«النخب» المريضة... ولا نقصد «مبادرة السلام العربية»/ الأميركية.