في عملها الجديد تعتمد «الدور الأول» الموسيقى الصامتة التي تمزج بين أنماط مختلفة في قالب غير تجاري. الفرقة التي تتميّز بانسجام أعضائها تبذل جهداً إضافياً في الكتابة الهارمونية
بشير صفير
حمل الألبوم الأول لفرقة «الدور الأول» عنوان «قرار إزالة». أمّا الجديد فعنوانه «عالطريق». اسم الفرقة المصرية يشير إلى الطابق الأول، وهو مستوحى من مكان السكن الذي جمع أعضاءها في البداية. لذا، للوهلة الأولى، يتبادر إلى أذهاننا التساؤل الآتي: هل نفَّذت السلطات قرار الإزالة الذي أشارت إليه الفرقة، وبالتالي لم تعد تسكن في «الدور الأول» بل «عالطريق»؟ هذا الهبوط ـــــ إن كان صحيحاً ـــــ لا يقابله انحدار في المستوى الفنّي بين باكورة الفرقة وعملها الجديد بعنوان «عالطريق» (إنكوغنيتو ـــــ 2009)، بل على العكس، لقد حققت الفرقة الشابة تحسّناً طفيفاً بين الأمس واليوم.
شرارة تأسيس «الدور الأول» كانت اللقاء الموسيقي العفوي بين عازف الباص أحمد عمر وعازف الكمان محمد سامي، حيث قررا إنشاء الفرقة. هكذا دعا أحمد صديقَيْه بوب وميزو (إيقاعات)، من فرقة «وسط البلد» للانضمام إليه. أما محمد، فأتى بعازفة الفلوت الفرنسية السورية نيْسَم جلال، وعازفة الساكسوفون نور عاشور، وأيضاً عازف الكيبورد والقانون فادي بدر صديق طفولته.
تنتمي فرقة «الدور الأول» إلى حالة شبابية نشأت في مصر خلال السنوات الأخيرة، واعتمدت الموسيقى الصامتة التي تمزج بين أنماط مختلفة في قالب غير تجاري، وتختلف عن بعض الفرق باختلاف هامش الغربي نسبة إلى الشرقي. من هذه الفرق نذكر «مسار» الذي يتسع عندها حضور الشرقي، و«إفتكاسات» و«وسط البلد»...
العمل الأول للفرقة جاء نتيجة اجتماع في إحدى الشقق، حيث اختبر أعضاؤها مواهبهم في التأليف والتفاعل طيلة ستة أشهر. وولَّدَت هذه الورشة الطويلة تسع مقطوعات موسيقية حواها ألبوم «قرار إزالة»، يصعب تصنيفها تصنيفاً عاماً أو مستقلاً. فهي عبارة عن لحظات متبدِّلة (إيقاعاً ونغماً)، بين الجاز اللاتيني والجاز الحرّ والأفرو ـــــ كوبي والأفريقي الشعبي والموسيقى الشرقية وحتى الآسيوي الأصفر. ويعتمد مؤلّفا الفرقة الأساسيَّين أحمد ومحمد على تكرار موضوعة موسيقية، تمثِّل محور تنويعات وبعض الارتجال. والجمل اللحنية بديهية في غالبيّتها، وكذلك التنويعات عليها، ما ينتج سياقاً عاماً مُمِلّاً أحياناً. ذلك أنّ مسار الموسيقى يفتقر هنا وهناك إلى بعد النظر كما إلى اللحظات الجذابة، أي تلك التي تخلقها ما يُعرَف بالفكرة الموسيقية المميّزة والناجحة والجديدة في أي مقطوعة (أو أغنية). والأسلوب الذي تصرّ عليه الفرقة هو التراشق المتقطِّع الذي يوحي برسم متعرِّج ذي زوايا حادّة. مع ذلك، تظهر جلية النية في تقديم شيء جميل وغير تجاري، لكنّ مفردات البناء والتعبير لم تتبلور بما فيه الكفاية.
في «عالطريق»، نحن أمام امتداد للخطوط العريضة المرسومة سابقاً، قلباً وقالباً، مع فارقٍ جوهري واضح هو انكسار حدّة جميع الملاحظات السلبية. كما يلاحَظ تقدّم في الانسجام بين أعضاء الفرقة، إضافة إلى متانة تقنية في الشق التنفيذي، نسبة إلى السابق. والأهم: جهد إضافي لناحية الكتابة الهارمونية. أما المقطوعة التي تُعتبَر نموذجاً يحتذى للسير قدماً نحو العمل المقبل فهي «نفرتاري». ونحن لا نتكلم عن جوّها الهادئ ومطلعها المستوحى من عمل لباخ (رغم اختلاف في النغمة: «لا ماجور» مقابل «دو ماجور» في مقطوعة باخ). هي من أنجح المحطات لأنها متجانسة، وعبارة عن مختصر مفيد، لحناً وتوزيعاً، وتتضمن أيضاً أفضل ما في الألبوم من كتابة موسيقية عمودية (من توافق وتقابل أصوات) وتغييرات نغمية تخدم المعنى المجازي المنوي إيصاله.
أما عازف الكمان محمد سامي، الذي ما انفكّ يعرّج في تقاسيمه ـــــ منذ الألبوم الأول ـــــ على الفولكلور الإسكتلندي، فكتب مقطوعة «حسب الله 2000» التي تؤكد حبّه لهذه الموسيقى وللشرقي. ويعزِّز هذا المزاج استخدام المزمار الذي ينوب عن الآلة الرسميّة في إسكتلندا: مزمار القربة (أي «باغبايبز» أو «كورنموز»).