اختار الفنان الأميركي في معرضه البيروتي أن يمجّد «الطبيعة الأم» أو «الآلهة الكبرى»... فإذا به يذهب بعيداً في خلط الحضارات والثقافات
زينب مرعي
في عالم يسمو فوق الأبعاد المادية، تختلط فيه الحقيقة بالميثولوجيا، والحاضر بالماضي، تستمع إلى أغنية من نوع مختلف: «أغنية الفن» عنوان مجموعة لوحات الأميركي دافيد بوز (1957) المعروضة في «غاليري كتانه كونيغ». هي دنيا عنوانها البراءة والحرّية مفتوحةً على الأمل والحلم والسفر، جسّدها بوز ـــــ بين عامي 2005 و2008 ـــــ في 13 لوحة من الأكريليك، تبدو للمتأمل كأنها انعكاس لللاوعي الإنساني. صور فطريّة تذكّر بغريزة الإنسان الأولى، يسهم في تكوينها استعماله للألوان بعذريتها، بحسب المدرسة الوحشيّة وخصوصاً الأخضر والزهري.
في أعماله التي تعبق بالرموز، يمجّد بوز الطبيعة. لكنها هنا الطبيعة بمعناها الأول والأقدم. أي «الطبيعة الأم»، «الآلهة الكبرى»، أمّ المخلوقات كافةً. هكذا، يعطيها بوز وجه فتاة أكثر منه وجه امرأة، مكلّلاً بهالة وقلب ذهبي ينبض كما في «أعيش على الأرض» وبوصلة الإنسان تشير إليها في لوحة «ماري». تحتلّ الطبيعة، دوماً، الموقع الأمامي في مجموعة اللّوحات المعروضة. قد تجد مباني في بعض الأعمال مثل In the fenway Boston لكنها تأخذ موقعاً خلفياً، أو هي تحت سيطرة عريشة تتدلّى عليها كلوحة Couple.
طبيعة بوز خصبة وغنّاء تشكّل مساحة لتنوّع الثقافات. تيمات يبدو كأنّ بوز كرّس حياته الفنيّة لها. ويحرص على أن يكون هذا التنوّع والمزج بين الحضارات المختلفة واضحاً. يزرع المباني التاريخيّة الإيطاليّة التي عاش فترة بينها، في لوحاته. كذلك ترى في «ماري» تعبيراً أقوى من المزج عندما يضيف إلى الطبيعة الأميركيّة المشذّبة، فيلاً يركبه هندي ويبعثر الفنان تحت قدميه فاكهة جوز الهند وفواكه استوائية أخرى. وفي «صباح أميركي»، يضع بوز رمزاً أميركياً هو تمثال الحرّية، إلى جانب زهرة «بيوني»، أحد الرموز الصينيّة القديمة. يذهب الفنان الأميركي أبعد من ذلك في خلط الحضارات والثقافات. هكذا، يزيل الجمود والتحجّر عن تمثال الحريّة ويعيده امرأةً بكامل أنوثتها، تحمل العلم الأميركي وليس مشعلاً، وإلى جانبه وردة «بيوني» التي غالباً ما تتكرّر في لوحات الفنان. وهو يستعملها بطرق متعدّدة إن كان من ناحية الشكل أو الدلالة، نظراً إلى ارتباط هذه الوردة بأكثر من قصّة ميثولوجية. أعاد منها بوز في المعرض تلك المرتبطة بكونها مخبأً للحوريّات، فاستعملها مفتوحة إلى جانب الرمز الأميركي لتخرج «الحوريّة الأميركيّة» من رحمها. كذلك في Mermaid peony notebook، تحتلّ الوردة وسط اللّوحة وتجد إلى يسارها الحوريّة مرّة أخرى وإلى يمينها دفتراً، ليختزل في اللّوحة نفسها قصةً ميثولوجيّةً أخرى مرتبطة بهذه الوردة التي تحمل اسم تلميذ «أسكلپيوس» إله الطب والشفاء الإغريقي، الذي أثار غيرة أستاذه، فحوّله زوس إلى وردة كي يحميه من غيرته.
لوحات معظمها سرياليّة، لكنّ طريقة تنفيذها حديثة لا كلاسيكيّة. لكن بوز يكمل عملية المزج حتى في التنفيذ فترى آثار المدرسة الانطباعيّة واضحة في بعض اللّوحات مثل In the Fenway Boston و My House. حتى إنّه يستقطب «رموزاً فنّية»، فتجد ساعة سلفادور دالي (au premier plan)، ثابتة على الساعة العاشرة صباحاً ومجرّدة من معاني مرور الزمن المقلقة، وإلى جانبها كرز سيزان في «أعيش على الأرض». يأخذنا بوز إلى الحلم والتخيّل، يعزّزهما بإبقائه على المجال البصري مفتوحاً في كل اللّوحات.
يقطّع الفنان لوحاته إلى أبعاد كثيرة تجعلك تشعر مع الرموز الكثيرة المنتمية إلى عصور مختلفة، بمبالغة أو عدم تجانس، كأن بوز يعمل بمبدأ الانطباعية. يطلب من عين المتأمل أن تمزج هذه الأبعاد العديدة كما تفعل مع الألوان لتخلق منها تجانساً يولّد الشعور بزمن مبعثر، لا يشبه ذلك المقلق الذي يسير بشكل أفقي، فيجعلك أنت واللّوحة تعيشان خارجه.


حتى 4 تموز (يوليو) المقبل ــــ «فضاء نائلة كتّانة كونيغ» (بناية جفينور، بيروت) ــــ للاستعلام: 01/738706