روني بو سابا مئة عام مرّت على ولادة يانّيس ريتسوس. ولو لَم يُطلَب منّي أن أُترجم مقتطَفاً من «مرثيّة»، لما عرفتُ أنّه وصل إلى الشعر العربيّ الحديث وأثّر فيه. ولم أكن لأعلم أنّ شعره نُقِل إلى العربيّة من لغات غير الأصل اليوناني على أيدي شعراء عرب! لعلّه من بين الشعراء اليونانيّين الأوفر حظّاً في الوصول إلى القارئ العربيّ (أم كان الحظّ لكفافيس؟). علاقته الشخصيّة ببعض الشعراء العرب، وخصوصاً محمود درويش، ساعدته على دخول العالم العربيّ. كما أنّ نضاله الشيوعيّ الذي دفع ثمنه النفي والتهديدات، شاركه فيه عدد كبير من الشباب العربيّ، بسبب انتشار الفكر اليساريّ، فسهّلت وحدة الحال في النضال عمليّة التقارب.
ريتسوس المولود في أوّل أيّار (مايو) 1909 ارتبط بالطبقة العاملة حاملاً نضالها في شعره حتى وفاته في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1990. أعماله الأدبيّة كثيرة بين الشعر (60 ديواناً)، والمسرح (4)، وأدب الرحلة (2)، إضافة إلى الترجمات. والمتابعون يعرفون أنّ قصائد كثيرة لُحِّنَت وصارت خبزاً يوميّاً للشعب اليونانيّ الذي لجأ إليها، وخصوصاً أيّام الديكتاتوريّة في الستينيّات. ومن أشهر القصائد الملحّنة «المرثيّة» التي ارتبطت بتظاهرات العمّال وضحايا الحكومات الجائرة. هذه القصيدة ـــــ الديوان كُتبت عام 1936 عندما وقع ريتسوس في 10 أيّار/ مايو على صورة أمّ ترثي ابنها على الصفحة الأولى من الجريدة الرسميّة للحزب الشيوعيّ (ريزوسباستيس). التظاهرة كانت قد بدأت في اليوم السابق واعتُمد لقمعها الشرطة ودبّابات الجيش! هكذا كتب ريتسوس 11 مقطعاً من المرثيّة (أضاف لاحقاً تسعة مقاطع) دفعةً واحدة، وقد أُنهِك بسبب السهر والتأليف. وتُجمع المصادر على أنّه وُجِد صباح 11 أيار وقد بصق دماً (حرفيّاً طبعاً) بسبب التعب. نشرت جريدة «ريزوسباستيس» في عددها الصادر في 12 أيّار/ مايو ثلاثة مقاطع. أمّا ريتسوس فأكمل القصيدة وأصدرها في العام نفسه في كتاب بيع منه عشرة آلاف نسخة! لكن لمّا فرض مِتاكساس الديكتاتوريّة في العامَ نفسه، منعت الرقابة «المرثيّة»، لكنّها كانت قد وصلت متأخّرة، فلم تعثر إلا على 250 نسخة فى إحدى المكتبات فأحرقتها.
القصيدة رثاء أمّ لولدها الذي قُتِل وهو يناضل لتحصيل حقوقه، وقد كانت نقطة مفصليّة في مسيرة الشعر اليونانيّ، فقسَمت شعراء الثلاثينيّات إلى كتلتين. وهذا العمل الأدبي جمع الثنائيّ سيفيريس (سفير اليونان في لبنان أوائل الستينيّات) وإيليتيس إلى ريتسوس في ثالوث استثنائي. والأوّلَان حازا لاحقاً «جائزة نوبل»، فيما رُشِّح لها ريتسوس ورحل من دون أن ينالها.