لا يمكن تناول ديانات العرب قبل الإسلام بمعزل عن مصر القديمة. هكذا يمكن اختصار كتاب «عبادة إيزيس وأوزيريس في مكة الجاهلية» (دار آفاق)، وفيه يرتاد الشاعر الفلسطيني متاهات الأساطير العربيّة القديمة، معتبراً أن «اللات والعزى» ليسا سوى «إيزيس وأوزيريس»
محمد شعير
كتاب جريء، صادم، يطرح أفكاراً ليست جديدة تماماً، لكنّه يكتسب طزاجته من اللغة الشعرية التي كتبه بها صاحبه زكريا محمد الذي قضى أكثر من خمس سنوات في تجميع مادة العمل ودراسة الأساطير العربية وتصنيفها. هكذا، وصل الشاعر الفلسطيني إلى فكرته الأساسية في الكتاب: «ديانة مصر القديمة وديانة العرب قبل الإسلام ديانة واحدة من حيث المبدأ. الأسماء تختلف أحياناً وأحياناً فقط، لكن ثمة وحدة تطال الأعماق». إذاً لا يمكن عزل ديانة العرب عن ديانة مصر القديمة، ولا يمكن فهم ديانة مكة من دون مساعدة النصوص المصرية. ليس هذا فقط بل «لا يمكن حلّ كثير من ألغاز ديانة مصر من دون نصوص الميثولوجيا العربية، ومن دون القرآن ذاته»... ليصل الشاعر إلى أنّ «اللات والعزى» لم يكونا سوى «إيزيس وأوزيريس».
يسير زكريا في كتابه «عبادة إيزيس وأوزيريس في مكة الجاهلية» (دار آفاق ـــــ القاهرة) عكس التيار. فرضيات كثيرة سابقة ترى عكس ذلك، مثل الفكرة التي طرحها الليبي علي فهمي خشيم الذي يرى أنّ آلهة مصر القديمة لم يكونوا سوى عرب والحضارة الفرعونية تكوّنت من مهاجرين عرب وليبيين!
تبدو الأفكار في شكلها الأول «مثيرة» أشعل طرحها نيراناً حادة قبلاً، وخصوصاً أنّها تتعامل مع نصوص «مقدسة» وأساطير، وتقدّم تفسيرات لهذه النصوص بعيدة عن المتعارف عليه. كأن تدور معارك على شخصية أخناتون: هل هو أبو الأنبياء إبراهيم... أم موسى؟ والخلاف أريقت فيه آلاف الصفحات، وكل أطرافه كانوا يملكون العديد من المبررات التي تسند رؤيتهم، وخصوصاً أنّ معظمها اعتمد على التشابه اللفظي بين الأسماء والتحويرات التي جرت عليها مع مرور الزمن. ويمكن الرجوع مثلاً إلى كتابات سيد القمني، سيد كريم، فراس السواح، أحمد عثمان، كمال الصليبي وآخرين من علماء المصريات الذين وقفوا على الطرف الآخر واعتبروا هذه الأطروحات مجرد «تخاريف» لا تستند إلى أيّ أساس من الصحة!
بالطبع، لا يمكن «تقزيم» المجهود الذي بذله شاعر مثل زكريا محمد، استشهد بمئات المراجع العربية والغربية. لكنّه نسي حقيقة مهمة أشار إليها طه حسين قبلاً: «ألا يمكن التعامل مع القصص الدينية باعتبارها قصصاً للعظة والاعتبار والإرشاد بدلاً من التعامل معها باعتبارها حقيقةً مؤكدة؟».
الميثولوجيا العربية مذهلة في غناها ـــــ حسب تعبير زكريا ـــــ إلى حد أنّنا لا ندرك أحياناً المدى الذي يذهب إليه هذا الغنى. كل اسم فيها يتمتّع بأهمية كبرى، حتى إنّ الأسماء نفسها تتحوّل إلى «أسطورة». هذا ما يشير إليه زكريا الذي بدأ بتحليل العديد من الحكايات الدينية في كتابه، محاولاً تقديم تفسيرات جديدة في ما يخص علمية بناء الأهرام وأبي الهول ورمزية البناء وعلاقته بديانة العرب في الجاهلية. لكن هل نجح الشاعر في الغوص في أعماق التاريخ والأساطير والحكايات القديمة؟
قصة «أهل الكهف» واحدة من هذه الحكايات. هي قصة عربية بامتياز، لم ترد إلا في القرآن والمصادر العربية الأخرى تعليقاً على ما ورد في القرآن. لكن كما يقول زكريا: «كونها أسطورة عربية، لا يعني أبداً أنها تتناول مسائل دينية تخص الجزيرة العربية فقط، بل هي على علاقة بجوهر أديان المنطقة، وعلى الأخص ديانة الأهرام. نعم، ديانة الأهرام. بل أهرام الجيزة الثلاثة على وجه الخصوص أيضاً».
«قشة صغيرة» فقط هي التي خبّأت دوماً العلاقة بين قصة أهل الكهف وأهرام الجيزة. إزاحة هذه القشة ستجعل كل عين تفاجأ بأنّها قادرة على رؤية الشبه الصاعق بين القصة وديانة الأهرام. ونظن أنّها قشّة الحذر والخوف التي حجبت الصلة البيّنة بين ديانة الأهرام وأهل الكهف. إذا أزحنا هذه القشة، فسنجد أنّ هناك شبهاً، بل شبهاً صاعقاً ربما بين الأهرام وأهل الكهف. أو قل سنجد أنّ قصة أهل الكهف تكون مطروحة بالحجر على هضبة الجيزة!
يتحرر الشاعر إذاً من الخوف، ويزيح القشة، ليقدّم تفسيره للحكاية: ولتكن البداية بالمشهد الذي يعرضه لنا القرآن عن أهل الكهف: «سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم». ثلاثة نائمون في كهفهم وكلب! أليس هذا شبيهاً بالأهرام الثلاثة وبأبي الهول رابضاً أمامها؟ ألسنا في أهرام الجيزة مع ثلاثة أهرام قربها كلب (يقال لنا إنّه أسد!)؟ ثمة شبه شكلي لا يمكن إنكاره! صحيح أن القرآن لا يحسم أنّهم ثلاثة مع كلبهم، لكنه أيضاً لا يحسم أنهم خمسة أو سبعة.
لكن لنمض قليلاً مع الوصف القرآني كي نزداد اقتناعاً بالشبه الجدي بين ما يصفه القرآن وما هي عليه الأهرام وكلبها/ أسدها: «وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود، ونقلّبهم ذات اليمين وذات الشمال، وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد». أليس هذا أفضل وصف يمكن تقديمه لوضع أبي الهول الذي يبسط ذراعيه مثل كلب أهل الكهف أمام الأهرام؟ إذا صح ما نقول، فقد حلّ لغز أبي الهول تماماً. هو كلب لا أسد من حيث المبدأ. وبهذا تكون آية قرآنية قد قدّمت لنا حلاً للغز أبي الهول!
بالمنطق نفسه، يقدّم لنا زكريا تفسيرات لبناء الأهرام (كهف أهل الكهف) باعتبارها مزارات دينية للعصر القديم لا معماراً فلسفياً لتفسير الكون كما يذهب بعضهم! باختصار، الكتاب مشوّق يدخل بنا في «سكة طويلة» و«عوالم مدهشة»، لكن هل يكفي الإدهاش لتفسير العالم؟