منبوذون في «كان» ملوك شباك التذاكرعثمان تزغارت
إنّهم أكبر الخاسرين في «مهرجان كان»، باستثناء جائزة أفضل تمثيل لشارلوت غينسبور، بطلة لارس فون تراير «المسيح الدجّال» Antichrist، علماً بأنّ فيلم المعلّم الدنماركي قوبل بالصفير خلال عرضه. بينما كان الاستقبال النقدي فاتراً ـــــ ولو أقل عنفاً ـــــ لـ«العناق المحطّم» لبيدرو ألمودفار، و«البحث عن إيريك» لكين لوتش، ما جعل الأفلام الثلاثة تخرج خائبة من أكبر المهرجانات السينمائيّة في العالم. وما إن أسدلت الستارة على «كان»، حتى كانت المفاجأة: خلافاً لتوقّعات النقّاد، احتلت الأفلام الثلاثة مواقع الصدارة في شباك التذاكر في المدن الأوروبيّة... وإذا بالشهر الحالي يكون موعداً أوروبياً استثنائيّاً مع «سينما المؤلف» و«السينما المفكرةرغم اختلاف المخرجين الثلاثة وتباعد مواضيع أفلامهم، فهم يشتركون هنا في استعارة مرجعيات فنية وفكرية متعددة، بشكل لم نشهده في أعمالهم السابقة. تنطلق الأعمال الثلاثة من تيمات مركزية متمايزة، لكنّها جميعاً ذات بعد نفسي: الإحساس بالذنب عند لارس فون تراير عبر قصة والدين يفقدان ابنهما بعد سقوطه من النافذة، بينما كانا يمارسان الحب. القلق الوجودي عند الفنان أو «رُهاب الصفحة البيضاء»، أي الخوف من نضوب مصادر الإلهام، عند ألمودوفار عبر قصة سينمائي يصاب بالعمى. والفرد المسحوق الذي يبحث عن مثل أعلى عند كين لوتش عبر قصة ساعي بريد مغرم بنجم كرة القدم إيريك كانتونا.
سلك لارس فون تراير، كالعادة، أسلوباً مغالياً في التجريبية، ما جعل ردود الفعل على فيلمه متباينة. وهو يواصل هنا المنحى المينيمالي الذي بدأه في ثلاثيته الأميركية غير المكتملة Dogville (2003) وManderlay (2005). لكنّ الأمر هنا لم يعد متعلقاً بمحو المؤثرات الصوتية والبصرية والاستغناء عن عناصر الإضاءة والديكور، بل سلّط المشرط المينيمالي على الخطاب السينمائي ذاته، ضارباً أبسط قواعد السرد الروائي، لمصلحة لغة بصرية تستعير أدواتها التعبيرية من التشكيل، ما يفسّر الجدل الذي تفجّر بينه وبين النقاد في «كان»، إذ حاول كثيرون أن يحدّدوا للفيلم «رسالة». لكنّ التباس الخطاب السردي لا يعني ابتعاد فون تراير عن «السينما المفكّرة» التي صنعت شهرته. وقد وجّه عبر شريطه تحيّةً إلى ثلاثة من أقطابها: الروسي أندري تاركوفسكي، والدنماركي كارل دريير، والسويدي إنغمار برغمان. استلهم فون تراير عوالم «صيحات وهمسات» (برغمان، 1972)، و«المرآة» (تاركوفسكي، 1974)، و«صفحات ممزقة من كتاب الشيطان» (دريير، 1919)، وصاغ أسلوباً متموّجاً وبالغ التعقيد في نحت الأخاديد النفسية لشخصيتيه العصابيتين، مسلطاً الضوء على الألم والإحساس بالذنب الذي يعتصرهما. ولم يخل الشريط من تأثيرات تشكيلية (أعمال الألماني غاسبار ديفيد فريدريتش عن تيمة الطبيعة والموت) وموسيقية (رائعة هاندل الأوبرالية «رينالدو»)، ومسرحيّة (رائعة أوغست ستريندبرغ Inferno)، فضلاً عن استعارات فكرية من نيتشه وفرويد ورامبو. وكان لافتاً أنّ فون تراير استعاد العوالم النفسية القلقة والسمات الأسلوبية التجريبية التي اتسمت بها أفلامه السابقة، وخصوصاً «تحطيم الأمواج» (1996) و«الحمقى» (1998).
المسعى ذاته سلكه ألمودوفار، فعاد ليحقّق تناصاً داخلياً مع أفلام سابقة له، وخصوصاً «قانون الرغبة» (1987) و«سوء تربية» (2004). لكنّه مضى أبعد من فون تراير، وسعى إلى إعادة توظيف عناصر مميزة من تلك الأفلام (الشخصيات، الديكور، الإضاءة...) إلى درجة أنّ شخصيّتي فيلمه هذا، السيناريست المصاب بالعمى هاري كين وبطل «قانون الرغبة» ماثيو بلانكو، تلتبسان إلى حدّ التطابق والتداخل في مشاهد تعكس «رُعب الصفحة البيضاء» الذي تحدّث عنه الشاعر الفرنسي مالارميه، إذ يستبدّ بكلّ منهما.
على غرار فون تراير، يوجّه ألمودوفار في «العناق المحطّم» تحية إلى أربعة سينمائيين كبار: لويس بونويل الذي يغرف من عوالم رائعته «عن موضوع الرغبة الغامض» (1977)، ودوغلاس سيرك الذي وجّه تحية إلى رائعته «لحن الذكرى» (1936)، وهيتشكوك الذي استعار ألمودفار أسلوبه المشوّق في رسم بورتريهات نفسية متقلّبة. ولم يخل الفيلم من تأثيرات وودي ألن الذي يعدّ القلق الوجودي من نضوب الإلهام إحدى تيماته الأثيرة.
تأثيرات هيتشكوك وودي ألن تركت بصماتها، أيضاً، على كين لوتش في «البحث عن إيريك». المعلم البريطاني انطلق من سيرة اريك كانتونا، ليقدّم بورتريهاً إنسانياً لشخصية مسحوقة تتمثل في ساعي بريد فقير مغرم بكانتونا، ويجد في تسقّط أخباره تسليته الوحيدة في ظل ظروفه المزرية. واستعار لوتش أسلوب التورية السحرية الذي ابتكره هيتشكوك في «نافذة على الباحة الداخليّة» (1954)، واستعاده وودي ألن في «وردة القاهرة القرمزيّة» (1985)، إذ جعل الشخصيات تخرج من الشاشة لتتحول إلى كائنات من لحم ودم. هكذا، خرج كانتونا من ملصق معلّق على جدار غرفة بطله المسحوق ليساعده على مواجهة الضغوط عليه، كعامل بسيط في زمن العولمة التي هيمنت على الاقتصاد وزعزعت حياة الناس الصغار.