مجموعة جديدة بعنوان «هي التي، أو زرقاء في قلب المدينة» (دار نلسن)، تعكس هشاشة الشاعرة، ورقّة نبرتها، والمكابدات التي صاحبت كتابتها
حسين بن حمزة
نقرأ مجموعة «هي التي، أو زرقاء في قلب المدينة» (دار نلسن)، وهي العاشرة للشاعرة صباح زوين، فنتلقّى إشارات وذبذبات قوية تضع غشاوة بيننا وبين المعنى المستهدف في قصائدها. ليس القصد أنّنا لا نفهم أو لا نتلذّذ بما نقرأه، إنما هناك لعب عميق على المعنى، معنى المفردة ومعنى الجملة ومعنى القصيدة بالكامل. اللعب يجعل المعنى متماوجاً ورجراجاً، غير محدَّد وغير مرئي بدقَّة. لعلَّ السبب عائد إلى حيرة المخيّلة وحيرة صاحبتها معاً. التماوج ليس صفة مستجدّة في نصوص هذه الشاعرة اللبنانية التي غالباً ما تقترب من قارئها، بخلفية ثقافية وشعرية قائمة على أكثر من لغة، وأكثر من حساسية. كتبت زوين بالفرنسية، وترجمت عنها وعن الإسبانية والإنكليزية والإيطالية والألمانية. وهي أساساً موزعة بين إسبانيّة أمها وعربيّة وفرنكفونيّة أبيها. للشعراء حيرتهم البديهية. صباح زوين اكتسبت حيرة إضافية بسبب تعدد لغوي لا مفرّ من تسرّبه إلى الكتابة. الحيرة هنا تسمح للقارئ بالتجوال في الفناء الخلفي للقصيدة، وتجعله قريباً من مسوداتها. الشاعرة تتردد وتتباطأ في العثور على المعنى. والقارئ يجد في ذلك فرصة لملامسة «وصفة» أو سرّ كتابة القصيدة. في المحصلة، لا يتأطر المعنى بل يتسع. التماوج يصنع رحابة وانفلاتاً لكنه، في الوقت نفسه، يظل في متناول القارئ. «ورقتي الملتوية لم تكتمل/ ولم أعثر على الحرف بعد»، تقول في إحدى القصائد. هذه الفكرة تتكرر بطرائق وتقنيات مختلفة. فكرة العثور على المعنى أو على الحروف التي تؤدي إليه. بالنسبة إلى صاحبة «في محاولةٍ مني»، «ليست الكلمة سوى فجوة في الليل»، و«الحرف بدأ يتفتَّت»، و«لم أكن أعلم/ أن الكلمات دائماً تأتي/ في اللحظة غير المكتملة/ وأن بإمكانها أن تبتلعني». ثمّة أمثلة كثيرة على وجود تيمة لغوية أصيلة في شغل صباح زوين. إنّها مكوّن أساسي يتجلّى في حيرة الشاعرة داخل معجمها أو بالأحرى داخل معاجمها. المفردات والصور والاستعارات تتحول إلى مسرح لغوي تُمارس فيه شتّى الألاعيب والحيل الممكنة من أجل استدراج العبارة الشعرية إلى معناها المنشود. لكن المعنى يظلّ، كما قلنا، متماوجاً ومفتوحاً على الاحتمالات. لا شكّ أنّ هذه الممارسة المتكررة تُخفي تحتها مكابداتٍ وآلاماً متصلة بالذات وبالكتابة معاً. من السهل اعتبار عدم العثور على المعنى تعثراً من نوع خاص. التعثّر في الكتابة يخلِّف ندوباً وكدمات. تقول الشاعرة لنفسها: «لماذا لم تتمكّني من القبض على الشمس/ أو لماذا لمْ/ على المعنى الهائل». ويتكرر ذلك: «كيف تتسلقين كل هذه الأحرف الوعرة/ ولم تموتي بعد». لا تكلّ الشاعرة من الحفر في الموضع نفسه، وغالباً ما تعود بصورةٍ مبتكرة أو استعارة مشتهاة، كما هي الحال حين تعطف الشمس على النسيان: «ماذا فعلتُ بصباحاتي/ سوى أني كدَّستُ/ أثلاماً من الشمس والنسيان». الألم مكتوب برقّة ورهافة ولطف. الرقة صفة حاضرة في ممارسة صباح زوين. هناك هشاشة مصاحبة لنبرتها الشعرية. هشاشة ورقة متأتيتان، على الأرجح، من فكرة المعنى أو العجز عن إكماله: «أعجزُ عن القول/ كما دائماً عجزتُ/ والقول يُغرق جسدي/ يُغرقه في عجز الكلمة».
تكتب صباح زوين الشعر وتضع مشاغلها وحيرتها داخل هذه الكتابة. نقرأ قصائدها ونقرأ المكابدات التي صاحبت كتابتها. مجموعتها الجديدة تؤكد هذا المسعى الذي حضر في مجموعاتها السابقة، ولكن تنبغي الإشارة إلى أن المجموعة الحالية موزعة على أربعة أقسام، وكل قسم يحتوي على قصائد مكتوبة في أمكنة وأزمنة مختلفة. نقول هذا لأن ثمة محاولات لإنجاز كتابة أخرى. كتابة غير محصورة بالوجهة التي تبنيّناها. كتابة تتخفف من فكرة المعنى. الحيرة هنا تصير أقل. يتسلل الآخر إلى القصيدة، والمعنى يصفو ويكف عن التماوج: «لم يكن الغسق وحده يغمر يديّ الكئيبتين/ يداي كانتا تنحنيان كل مساء/ كانتا على الحجر الأبيض/ وكانتا على بياض كتفك».