مطربة الزنوجة والألم ماتت ممنوعة من الغناء

كثيرون يعشقون أغنياتها المغمّسة بالكآبة. لكن من يتذكّر اليوم، بعد نصف قرن على رحيل الديفا، أن تلك البحّة الأليفة تختصر حياة قصيرة، صاخبة، ملؤها الألم والتمرّد والضياع؟ عودة إلى Lady Day التي شكّلت مع إيلّا فيتزجيرالد وسارا فون ثالوثاً فريداً في تاريخ الجاز

بشير صفير
تحلّ هذه السنة الذكرى الخمسون لرحيل الـ«ديفا» الأميركية بيلي هوليداي. حدثٌ يختصر المناسبات الأخرى في مجال «الفنّ الأسود». في استعادة حياة الـLady Day ـ كما لقّبها عازف الساكسوفون لسْتِر يونغ ــ نجد أنفسنا أمام كل العناصر المطلوبة لكتابة قصص رموز الجاز الخالدين: الإبداع، التفاني في سبيل الفن، الصدق، الاضطهاد العنصري، الكحول، المخدرات، الفقر (أقلّه في المراحل الأولى)،... حياة هوليداي تكاد تختصَر بهذه العناوين. هي حياة بالأسود والأبيض. الأسود هو لون بشرتها وطعم حياتها في ظل العنصرية والمرض. والأبيض هو لون المواد التي حوّلت حياتها إلى جحيم وجسدها إلى هيكلٍ متآكلٍ ينتظر الانهيار، ولو أنّ كل ذلك أسهم على الأرجح في تألّقها الإبداعي.
ولدت هوليداي في عام 1915، واستطاعت خلال حياتها القصيرة أن تصبح أساساً في الغناء الجازي (الصوت النسائي تحديداً). تلك المملكة التي تقوم على أقانيم ثلاثة: بيلي هوليداي (1915 ـ 1959)، إيلّا فيتزجيرالد (1917ـ 1996) وسارا فون (1924 ـ 1990).
طفولتها كانت مأسوية. ولدت لأبوين غير مرتبطيْن بعقد زواج (على عكس ما روَت لاحقاً في سيرتها الذاتية الشهيرة). لم يعترف بها أبوها، أما أمّها التي كانت تعمل لتكسب عيشها (من الدعارة أحياناً)، فلم تجد وقتاً لتربيتها. عاشت الطفلة عند أقاربها. تعرَّضت للاغتصاب وهي في العاشرة، وأدخِلَت على أثر هذه الحادثة إلى مدرسة داخلية في أحد الأديرة، حيث معاملة الراهبات كانت أكثر سوءاً من الاغتصاب.
كلّ هذه «العبودية» التي اتخذت أشكالاً مختلفة في حياة هوليداي، معطوفة على العنصرية التي تعرَّضت لها مثل أبناء وبنات جلدها في تلك الفترة القاتمة من تاريخ أميركا، ستترك في نفسها ندوباً حملتها في صوتها الأنثوي الحنون والرقيق، وحبّاً للتحرر سينعكس في أدائها. كانت تقول: «لا أستطيع أن أغنّي بالأسلوب نفسه ليلتين متتاليتين. لا نكون موسيقيين ما لم نتغيّر دوماً». كانت تتلاعب بالألحان، وتضيف إليها ارتجالاً آنياً، هو ابن لحظته، بعيداً من التنفيذ الحرفي أساساً.
كانت في بداياتها الفتاة اللعوب أو الـ«لايدي» الأنيقة الساحرة بين أعضاء الفرق الكبيرة، كما نراها في بعض الأغنيات المصوَّرة، متبرِّجة بالحلي وورود الغاردينيا العزيزة على قلبها. تتبع الفرقة بانتباه فطري، وتثني على الصولوهات بهزّ رأسها والترنُّح. وإضافة إلى أداء أعمال كبار ذلك الزمن، من أمثال دوك ألينغتون وكاونت بايسي ولستر يونغ، كتبت هوليداي ولحَّنت أغنياتها الخاصة بينها رائعتيْها Don’t Explain وGod Bless the Child...
هوليداي التي استعبدتها المخدرات (إضافة إلى الكحول)، وأدخلتها السجن والمشافي، سخَّرت في المقابل صوتها بهدف مناهضة العبودية الأكبر: أي العنصريّة. لعلّنا نذكر الأغنية التي أصبحت رمزاً مطلقاً للتحرُّر: «ستراينج فروت» (فاكهة غريبة). تلك الرائعة التي كتبها هاوٍ يدعى لويس آلن عام 1939، وكانت أوَّل من غنّاها قبل أن تصبح من كلاسيكيات الجاز التي أدّتها أصوات كثيرة، ومغنيات السود خصوصاً (تصف السود المقتولين بأيادي البيض، والمعلّقين على الأشجار في جنوب أميركا). يصعب على المرء أن يحبس دموعه عند سماع بيلي (ورؤيتها) تؤدي هذه الأغنية، وهي تكاد تختنق لتحبس البكاء في حنجرتها، وكيف تعصر كلماتها في فمها قبل أن تبصق قرفها في وجه الرجل الأبيض. وفي التعبير عن الحب، يكفي أن ننظر إلى عينيها، ونسمع تغيُّرات نبرتها بين الخافت والمتوسِّل في التسجيل المصوَّر لرائعة جورج غرشوين I Love You Porgy (من الأوبرا الشعبية Porgy and Bess).
كل هذا الصخب في حياة هوليداي، تضاف إليه فضائح سببها الأساسي الإسراف في شرب الكحول وإدمان الهيرويين والكوكايين، ويقال إنّها باعت جسدها مرةً. وإذا أضفنا إلى كل ذلك علاقاتها الغراميّة والجسديّة مع النساء (بينهن المغنية الشهيرة مارلين ديتريش)، سنحصل على تلك الهالة الخاصة التي رافقت الفنانة الاستثنائيّة في حياتها القصيرة. ولم تنفع كلّ الجهود التي بذلتها للتخلص من آفة الإدمان، إذ تخبّطت في نمط الحياة هذا حتى الرمق الأخير. قبل يومين من رحيلها، وُجدَت البودرة البيضاء داخل غرفتها الخاصة في المستشفى التي توفيت فيها. وكانت الشرطة التي استُدعِيَت لحراستها تستعدّ لاعتقالها فور تعافيها. لكنّها أفلتت من حراس الأخلاق العامة، وقضت متأثرة بتلف في الكبد، واحتقان في الرئتين، والتهاب كلوي في 17 تموز (يوليو) من عام 1959.
غنّت هوليداي في معظم حانات نيويورك، قبل أن تُسحَب منها رخصة العمل إثر خروجها من السجن. كذلك غنَّت في أوروبا، وسجلت أسطوانات انتشرت في العالم (أبرزها Distingué Lovers ـ 1957). كل ذلك انتهى ببضعة دولارات ورثها زوجها جيمي مونرو الذي عانت معه ما عانت من الاحتيال إلى الإدمان.
اليوم، باتت تسجيلاتها ملكية عامة، وأي شركة يمكنها جني الأموال من روائعها، بعدما حقّقت أبرز شركات الجاز الملايين من صوتٍ يسكن وجدان الأجيال في العالم أجمع على مدى عقود.