بشير صفيرفي الموسيقى عموماً، إذا ذكرنا آلة موسيقية يمكننا مقابلتها بعددٍ كبير من الموسيقيين (مؤلفين، عازفين أو مؤلفين/ عازفين). إذا فعلنا العكس، يمكننا مقابلة اسم الموسيقي بآلة (واحدة عموماً) أتقنها أداءً و/ أو تأليفاً. بمعنى آخر، هناك قاعدتان في هذا السياق، الأولى: الآلة الواحدة تقابلها أكثر من شخصية. والثانية: الشخصية تقابلها آلة واحدة (أو أكثر في قليل من الأحيان). أما فاندا لاندوفسكا (1879 ــ 1959)، العازفة الفرنسيّة البولنديّة الأصل التي تصادف هذه السنة الذكرى الخمسين لرحيلها، فهي مِن القلّة التي تشكل استثناءً للقاعدة الأولى. فإذا قلنا كلافسان نقول فاندا لاندوفسكا، مع العلم بأن عازفي هذا الآلة كُثُر. إذاً ما هو سرّ وسبب هذا الارتباط الوثيق بين لاندوفسكا والكلافسان؟
تاريخياً، كان الكلافسان رائجاً منذ ما قبل حقبة الباروك حتى مطلع الحقبة الكلاسيكية (منتصف القرن الثامن عشر)، ثمّ بدأ يغيب عن التأليف الموسيقي مع ظهور البيانو ـــــ فورتيه (الذي تطوّر إلى البيانو الذي نعرفه اليوم) في النصف الأول من القرن الثامن عشر. وفي مطلع القرن التالي، كان البيانو قد حلّ محله كليّاً، ولم يعد يسمع بالكلافسان إلّا في النصوص التاريخية. حتى الأعمال التي كُتِبَت له قديماً باتت تُؤدّى على البيانو، وخصوصاً أعمال باخ، وما زالت حتّى اليوم. بعد أكثر من قرنٍ، جاءت المنقِذة فاندا لاندوفسكا وأعادت الاعتبار لهذه الآلة ودافعت عن فرادة نبرتها.
موسيقياً، لم يكن كافياً بالطبع اختيار الكلافسان واعتماده كآلة فريدة. إلى جانب ذلك، يجب دعم هذا الخيار بمهارات أدائيّة استثنائية. إتقان لاندوفسكا لآلتها لم يكن عادياً، وإحساسها العالي لم يلفت عشاق الموسيقى فحسب، بل جذب المؤلفين من جديد ودفعهم إلى كتابة أعمال خاصة بالكلافسان. معظم الأعمال الجديدة كانت تُهدى إلى السيدة فاندا (أهمها «كونشرتو شامباتر» للكلافسان والأوركسترا للفرنسي فرنسيس برولنك).
لحسن الحظ أن لاندوفسكا استطاعت إنجاز بعض التسجيلات المقبولة لناحية نوعية الصوت وأبرزها لباخ. هكذا فتحت الطريق أمام العديد من العازفين لأداء أعمال الأخير كما كُتِبَت، إذ تبنّى نهج مدرستها كثيرون أمثال غوستاف ليونهاردت، بيار هانتاي، كريستوف روسّيه، سكوت روسّ، وغيرهم...