«من النكبة إلى غزة: هو لا يزال احتلالاً» (دار العين) يقدّم نصوصاً معرّبة لكل من إيلان بابيه وجيش عاميت وحاييم هانجبي الذين ينتمون إلى مدرسة «المؤرخين الجدد» في إسرائيل. قراءات نقدية للنكبة، تدحض الرواية الصهيونية الرسميّة
محمد شعير
كيف تحولت فلسطين العربية إلى دولة لليهود؟ الإجابة عن السؤال تستدعي العودة إلى أكثر من ستين عاماً بحروبها الستّ، وملايين الضحايا واللاجئين. تستدعي أن يحكي كل طرف من أطراف الصراع روايته «فمن يكتب حكايته يرث أرض الكلام ويملك المعنى تماماً» كما يقول محمود درويش. الحكايات الفلسطينية معروفة للجميع، لكنّ الأهم أن نسمع الفضيحة الصهيونية بتفاصيلها المرعبة عندما يحكيها «المؤرخون الجدد»(على ما بينهم من تباين، وما في المصطلح من خلط) داخل إسرائيل نفسها، محاولين «تحطيم الروايات الرسمية» الصهيونية. من أبرز هؤلاء المؤرخ إيلان بابيه، الذي قرر مواجهة الصهيونية بالوثائق والحكايات، وترك إسرائيل إلى بريطانيا حيث يقيم الآن. هناك، كتبَ في جريدة الـ «غارديان» مطالباً بمقاطعة الأكاديمية الإسرائيلية على غرار مقاطعة نظام «الأبارتهايد» في جنوب أفريقيا.
عن «يوميّات تطهير فلسطين من سكانها» وكشف أكاذيب «قادة الدولة»، كتب بابيه مقالة مرجعيّة ترجمها نائل الطوخي ضمن كتاب «من النكبة إلى غزة: هو لا يزال احتلالاً» (دار العين ـــــ القاهرة). يتناول الكتاب يوميات «الجريمة» في أرشيفات الجيش الإسرائيلي ومذكرات القادة الذين قاموا بها ولقاءاتهم مع «أهل البلاد الأصليين» من خلال ثلاث مقالات.
في المقالة الأولى، يعود بابيه إلى فترة تمتدّ من نيسان (أبريل) إلى أيار (مايو) 1948 ليكتب دراسته عن تهجير الفلسطينيين من أرضهم. تفاصيل الدراسة مرعبة: عبوات متفجرة تتدحرج من الجبال إلى داخل الأحياء العربية، آبار يجري تسريب جراثيم التيفوئيد فيها، أسواق تُقصف بمجرد امتلائها بالأهالي الراغبين في الهرب.
كل هذا حدث قبل دخول الجيوش العربية فلسطين، وهو ما يدحض الادعاء الصهيوني بأنّ التهجير حدث استجابةً لأوامر القادة العرب ورداً على هجومهم. أركان جريمة الإبادة كاملة، ورواية الحقيقة مدعومة بالوثائق. عشية إقامة الدولة اليهودية الجديدة، وقبل أن تدخل الجيوش العربية إلى أراضيها، دمرت القوات غير النظامية للدولة اليهودية الناشئة مدن فلسطين. وطُرد أكثر من مئة وخمسين ألف فلسطيني عندئذ من بيوتهم في المدن، وانضم إليهم في صيف 1948 أكثر من سبعين ألفاً من سكان اللدّ والرملة.
نحن إذاً أمام نبوءة تتحقّق: «نبوءة التطهير» أو المدن اليهودية الطاهرة. هذه النبوءة كانت الحجر الأساس في السياسة التي انتهجها بن غوريون ومؤسسته العسكرية. حتى 1967 بدا أنّ مصير القدس الشرقية سيكون مختلفاً وأخذت ترتسم حولها صورة المدينة التي ارتبط بها الجميع، يهوداً وعرباً. ربما كانت تدور أمام أعيننا صيغة مختلفة، هناك أو في الخليل، لكنّها متصلة بالإصرار نفسه على التطهير، وعلى خلق مدن بلا عرب.
النكبة لم تكن نكبة سياسيّة فقط، كما يقول المترجم ـــــ بل كانت ثقافية كذلك. حينها، واجهت إسرائيل مشكلة قانونية في كيفية التعامل مع الكتب التي تركها العرب في بيوتهم خلفهم. كيف تصرفوا بتلك الكتب؟ السؤال تجيب عنه المقالة الثانية «قيام وانهيار الكتاب الفلسطيني» لجيش عاميت، الباحث في جامعة بن غوريون. يكشف الأخير وقائع حرق وفرم الكتب الفلسطينية التي تركها أصحابها العرب في بيوتهم عشية فرارهم. يكشف عاميت وقائع إنشاء المكتبة العربية في مدينة يافا من هذه الكتب، واستثمار الدولة اليهودية الناشئة لأرباح هذه المكتبة، ثم فرم كتبها واحداً واحداً لدوافع أمنية، بعدما اكتشفت أن بعضها يحوي «تحريضاً» ضد الدولة أو «بضائع غير صالحة للاستعمال».
يبحر بنا عاميت في تاريخ الرغبة الإسرائيلية في محو الثقافة الفلسطينية وجعلها تابعة للدولة الناشئة، عبر التأكد من ولاء المعلمين في المدارس العربية لدولة إسرائيل. هذا الأمر تحكّم فيه جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي المعروف باسم «الشاباك». في المقالة الثالثة «العسل الذي سرقناه»، يسترجع الناشط والكاتب المسرحي حاييم هانجبي، طفولته في مدينة القدس. يتذكر جيرانه العرب، وكيف صحا اليهود ذات يوم ليكتشفوا أن المدينة صارت يهودية، وأن جيرانهم (أهل المدينة العرب) قد غادروها. تبدأ المعلومات بالظهور عن تاريخ النكبة، ويصير حلّ لغز اختفاء العرب أسهل مما كان. وفجأةً يلتقي هانغبي قائداً فتحاوياً. القائد ـــــ الذي كان جاراً له ـــــ يسرد له كيف كان اليهود يطلقون النار باتجاههم وهم جالسون في المقاهي، وكيف قرروا المغادرة، ثم كيف تحوَّل إلى محارب من أجل حرية فلسطين.
ما حدث منذ ستين عاماً لا يختلف كثيراً عما يحدث الآن. تابع العالم مشاهد قصف غزّة. تابعها شعراء إسرائيليون أيضاً، فأصدروا خلال العدوان أنطولوجيا شعرية حملت عنوان «لاتسيت»، أي «اخرجوا»، وتحوي قصائد تعارض الوحشية الإسرائيلية. وهذه هي القصائد التي يوزعها المترجم على صفحات كتابه. ولعل هؤلاء الشعراء لا يصلون إلى المستوى الأخلاقي لإيلان بابيه. هم يكتبون انطلاقاً من كونهم «مواطنين في دولة إسرائيل» يعارضون وحشية «الاحتلال في المناطق المحتلة» من دون أن يتساءلوا عن شرعية وجودهم على 80 في المئة من أرض فلسطين التي يسمّونها إسرائيل. ولعل هذا ما يغفل عنه مترجم الكتاب في غمار حماسته للتعريف بـ «الأدب الإسرائيلي».