محمود عبد الغني كتاب الروائي والمؤرخ المغربي أحمد التوفيق «والد وما ولد» («وزارة الثقافة المغربية» و«المركز الثقافي العربي» سيرة ذاتية، لكن من الأدق وصفه بـ«سيرة الطفولة». الطفولة تمثل لحظات نموذجية في حياة كل كتّاب السيرة الذاتية ـــــ أقرب الأجناس الأدبية إلى رواية التعلم التي تتأسس على مراحل تكوين الفرد واندماجه في العالم. الطفولة تبرز في «والد وما ولد» أو «خارج المكان» لإدوارد سعيد مثلاً، باعتبارها بلاغة نموذجية يروم الكاتب الكشف عنها. عند الشروع في قراءة «والد وما ولد»، لا بد من أن نتوقف عند تصريح أحمد التوفيق بأنه سيتناول فترة عمره الممتدة بين الخامسة والثانية عشرة، تماماً كجان بول سارتر في سيرة طفولته «الكلمات» وجان جاك روسو في سيرته الذاتية «الاعترافات». حقيقة الأمر قد تتبدّى في قول أندري مالرو في سيرته الذاتية «مذكرات مضادة»: «كلّ الكتاب الذين أعرفهم يحبون طفولتهم»؟ كان أحمد التوفيق في حاجة ملحّة إلى اللحظة الأولى التي تساعده فعلياً على الانطلاق في سرده. إنها ولادة والده محمد (الوالد) في بداية العقد الثاني من القرن العشرين في قرية إمرغن، إحدى قرى الأطلس الكبير.
قرية تقع في منتصف الطريق التي سلكها خلفاء الدولة الموحدية في القرن السادس الهجري. مرّوا بإمرغن كلَّما توجهوا جنوباً من عاصمة المغرب الكبير والأندلس، مدينة مراكش، إلى مدينة تينمل مهد دولتهم ومدفن إمامها المؤسس المهدي بن تومرت. بهذا السرد التاريخي، يثبت التوفيق أهمية هذه القرية المجهولة، ثمّ ينتقل إلى وضع شجرة عائلة «ايت واحمان» ( أهل واحمان) ـــــ هذه عائلة أنتجت العديد من الشيوخ ـــــ وموقع «الوالد» فيها. بعد أهمية القرية، تأتي أهمية النسب في التراتبيّة. لهذا أهمية سردية خاصة تكمن في مرونة الانتقال إلى اليفاعة وحفظ القرآن. فسيرة «والد وما ولد» تتضمن فصولاً مهمة من محكيّ التعلم في ذلك السفح البعيد. هنا نقرأ عالم الحفظ على أيدي مشيخة من العلماء والفقهاء والانتقال إلى النضج واليفاعة وتناسي هشاشة السنوات الأولى. هناك صفحات مشوّقة عن الحفظ ومحو الألواح وطليها بالصلصال ليكتب فيها التلميذ جزءاً جديداً من القرآن بإملاء من المعلم «سي عابد»، الذي يرمز إلى الهيبة والوقار والسلطة.
هيبة الطبيعة الظليلة، وهيبة العائلة والنسب، وهيبة المعلم، صنعت هذه السيرة، لكن هناك عناصر أخرى صنعت أحمد التوفيق. وذلك يحتاج إلى كتاب آخر.