صريحة، سهلة، مباشرة، تستعير من المجالات التلفزيونية الأخرى أفضل عناصرها وتستميت لابتكار المواقف المضحكة. لكنّها أحياناً تشطّ عن هدفها وتخلق عند المتلقّي صلةً بين السلعة وبعض المعاني السلبيّة
محمد خير
إذا قدّمت لك دعاية تجاريّة صورة ميت، فإنك ستتذكر الميت وتنسى السلعة. وإذا كانت السلعة مصوَّرة من زاوية ضيقة، فإنك لن تتذكّر سوى إحساس «الخنقة»! الدعاية التجارية المصوّرة تجذبك نحو السلعة، تقنعك بها، تدفعك إليها... لكنّها أحياناً قد تفعل العكس، لأنّ الصورة التي تبثها الشاشة قد تتحدث بغير ما يقصد صاحبها ولأنّ التعليق المصاحب للصورة قد يؤدي أثراً عكسياً، عندما ينحاز لخفّة الدم على حساب رسالة الدعاية.
بين زحم الإنتاج التلفزيوني العربي، تبدو الدعايات التجارية، وخصوصاً المصريّة، أشدّ تميّزاً وأخفّ ظلاً، ربما لأنّ الدعاية الأطول لا تتجاوز دقيقة، ما يطيح عنصر الملل وهو سرطان التلفزيون العربي. ربما تميّزت الدعاية بسبب صراحة رسالتها، إذ لا تضطر لأن تخفي «البيزنس» وراء دعاوى تقديم تاريخنا في مسلسل أو مناقشة قضايا رأي عام. الإعلان صريح، سهل، مباشر، يستعير من المجالات التلفزيونية الأخرى أفضل عناصرها البشريّة، ولا يوفّر المال لكنه يوفّر الوقت. وقد ازدهرت في العالم العربي شركات إنتاج فني خاصة، وفّرت للدعايات ورش عمل لتأليف الإعلانات المتنوعة وصياغتها وتأليف الحملات الدعائية، مستعينة بشعراء وكتّاب أغانٍ. الأمر الذي أدى إلى أنّ حققت بعض أغنيات الدعايات نجاحاً لافتاً فاق نجاحاً تجارياً لأغنيات كتبت للسوق الغنائية العادية، بل إن أغنية «إيه ده بقى» التي كانت دعاية لأحد أنواع الشاي، وغناها المطرب حكيم، أدّى نجاحها لأن تحوّلت إلى أغنية عادية بعد تغيير كلماتها، لا العكس!
لكنّ الاستعانة بالشعراء ومؤلّفي الدراما لها سلبياتها أيضاً، فهي قد تحيد بالحملات الدعائية عن أهدافها التجارية المقصودة، لحساب تأليف مواقف خفيفة الدم، قد تضحك المتلقّي، لكنها ستصنع في ذهنه ربطاً بين السلعة ومعان غير مناسبة، كما حدث في إحدى دعايات المياه الغازية التي تُبثّ بكثرة حالياً على الشاشات. في الدعاية المصمّمة بالرسوم المتحرّكة، تقف حبّة ليمون في صالة منزل، وتشرب علبة من المياه الغازية، تدخل حبة ليمون أخرى إلى المكان، تصرخ في الأولى طالبةً منها أن تترك المشروب، لأنّ المشروب في تلك العلبة ليس إلا... صديقهما حسام! ينتقل الكادر سريعاً إلى صور معلّقة على الحائط تظهر صديقهما «الراحل» وثمة شريط أسود يزيّن زوايا الصورة كعلامة حزن!! تُرى ما الإحساس الذي ستخلفه تلك الدعاية عند المستهلك (؟) سوى تذكّر الصديق الميت كلما رأى ذلك المشروب، وربما محاولة التأكد من أنّ تلك لم تكن دعاية لحانوتي.
المغزى هنا أنّ المتلقي لا يستقبل فقط التعليق المصاحب للدعاية، وهو تعليق مباشر لأنّه ببساطة «دعائي»، لكن الأهم علاقة التعليق بالصورة. هما معاً يقدّمان ما يتخطّى قشرة وعي المستهلك، وصولاً إلى مكوناته العاطفية، اللاشعورية. تلك المكونات هي التي تستقبل الرسالة الخفية في الدعاية، وتتأثر بأدنى مكونات الصورة، وتتعدد ردود أفعالها حسب كون تلك الصورة فسيحة، واضحة، مظلمة، غنية، مهتزة، وخصوصاً أن مفهوم «الحملة الدعائية» يعتمد بالأساس على صنع علاقة تنمو تدريجاً مع المتفرج، وتستهدف عملياته الشرائية البعيدة المدى.
بالنظر إلى ما سبق، يمكن التعرّف إلى المشكلة الكامنة في الدعاية التالية: دعاية مصورة غرضها الترويج لأحد الأنظمة الجديدة لخطوط الهاتف الخلوي. تصوّر الدعاية شركة شديدة الازدحام بالموظفين. التعليق الصوتي يتحدث، شبه ساخر، عن اقتراحات لتوفير الميزانيات، بينها إلغاء أجهزة التكييف وتوزيع مراوح على الموظفين. والصورة تنقل صفوفاً من الموظفين يحملون مروحة صغيرة جداً بجوار وجوههم، ثم لقطة لموظف يجلس مع أوراقه داخل دورة المياه «من أجل استغلال كل المساحات الممكنة» وبائع متجوّل يبيع حاجياته داخل مصعد الشركة المزدحم بالبشر، بهدف «تأجير الأماكن المتاحة» ثم الاستغناء عن السفر بالطائرة، ودفع الموظفين إلى الاستعانة بالطرق الأخرى في السفر. ثم لقطة لموظف يحمل عشرات الحقائب فوق عربة شبه يدوية في مكان ناء. وينتهي كل ذلك إلى الاقتراح الأخير، وهو استخدام خط الهاتف الفلاني الموفّر، بدلاً من كل تلك الإجراءات.
لا شك في أنّ من صاغ الدعاية، بذل جهداً في البحث عن أساليب ساخرة ومبالغ فيها للتوفير، لكنّه أوجد مشكلة ذات شقين: الأول أنّه يحاول أن يبرز مميزات سلعة على حساب عيوب خرافية وساخرة بل غير موجودة. أما الشق الثاني، فهو أنّه، مرة أخرى، لن يبقى في ذهن متلقّي الدعاية، سوى الصور السلبية التي بثتها الشاشة، من ضيق في الكادر وازدحام مزعج للعين التي تشاهد.


الشركات الخلوية دعايات مكلفة

الدعايات الخاصة بشركات الهاتف الخلوي كانت الأكثر تميزاً بعدما اتسع سوق هذه الشركات ليضمّ ملايين المستهلكين. هكذا، أنفقت أموالاً طائلة لتصميم حملات تحافظ على معدل نمو السوق. ودعمت تلك الشركات ورش عمل لإنتاج أفكار وصياغات جذابة لدعاياتها الخاصة، استكتبت فيها عدداً من أمهر الكتاب والشعراء، واستخدمت أفضل التقنيين تصويراً وإخراجاً، وتنافست في اجتذاب نجوم السينما والتلفزيون والرياضة. وجاء دخول شركة «اتّصالات» الإماراتية إلى السوق المصرية ليزيد المنافسة «والإنفاق» بعدما اقتصرت المنافسة في السنوات الماضية على شركتي «موبينيل» و«فودافون» ودعاياتهما المكلفة