التشكيليّة الفرنسيّة زارت بيروت في 2006، واستوحت رسوماً بالحبر الصيني على ورق الأرزّ وتماثيل برونزيّة، تحوّلت إلى تجهيز مسرحي ــ شعري بتوقيع المخرج اللبناني
سناء الخوري
عندما تتنقّل بين لوحات سيبيل فريديل وتماثيلها، تخال نفسك لبرهة في مسيرة حجّ. هنا، في إحدى غرف «قصر بيت الدين»، تتحوّل الخطوات المقتصدة التي تفرضها المساحة المغلقة إلى تطواف، بكلّ معاني الكلمة من انعتاق وتطهّر. رحلة دائريّة، كحلقة الحياة بين ولادة وموت، تأخذك إليها التشكيلية الفرنسيّة. أعمال بالحبر الصيني على ورق الأرزّ، ومجموعة تماثيل برونزيَّة ذات أشكال عموديَّة سمَّتها صاحبتها «المشاؤون»، شكَّلت نواةً لتجهيز بعنوان «آثار» Liban Traces، أخرجه المسرحي اللبناني نبيل الأظن، وافتتح أخيراً في القصر الشوفي الذي يتهيّأ لاحتضان مهرجانه الصيفي الشهير، بعدما قُدِّم مطلع العام الحالي في فرنسا («كنيسة سان جيرمان»، Sully-sur-Loire).
التقى فريديل والأظن وكان الشعر ثالثهما. وضع صاحب «مجنون عمر» اللوحات والتماثيل في سياق يحملها إلى دنيا الأحلام، وأرفقها بتسجيلات صوتيّة موزعة بين الزوايا ــــ بأصوات الأظن مع آني أرمان وليونيل بريفيل ــــ وهي عبارة عن مختارات شعريّة مؤدّاة من أعمال فؤاد أبي زيد، وأدونيس، وإيتيل عدنان، وأنسي الحاج، وفينوس خوري غاتا، وفؤاد غابريال نفاع، وجورج شحادة، وصلاح ستيتيّة، وناديا تويني، وبسّام حجّار.
الآثار هنا هي لمحات التقطتها التشكيليّة الفرنسيّة بعد زيارتها إلى لبنان خريف عام 2006. في اللوحات التي جاءت مرقّطة بمربعات سوداء ورماديّة، تسيطر الخلفيّة البيضاء. توحي المكعّبات ذات الظلال ــــ إن نظرنا إليها كلّاً على حدة ــــ بأفراد هائمين، أو نوافذ، أو حتّى أحجار مدمّرة، أو ربما شواهد قبور. إنّه التأويل في حدوده القصوى، كأنَّك أمام أبجديّة غريبة تحاول فكّ رموزها. بالفعل، سيبيل فريديل قبل أن تكون تشكيليّة، هي خطّاطة متخصصة بالحرف الصيني. عام 1983، تعرّفت على الخطاط الكوري أونغ نو لي فعلّمها سرّ الحرفة، ومنذ ذلك الحين أصبحت مهووسة بها. هنا، تستخدم الأدوات الخطاطة لترسم: الحبر الصيني وورق الأرزّ. تقنيتها الثلاثيّة الأبعاد تقريباً، والرسم من الأعلى إلى الأسفل جزء من تلك التقنيّة السحريّة، وهي تريد منّا أن نفكّ رموزها من دون قلق المعنى. عملها تحدٍّ جمالي للعين وقدرتها على الانسياق خلف الشكل المطلق.
حين تقارب المشهد بكليّته، يظهر أمامك كأنّه مجمّع مدمر أو موكب مهجرين، أو بقعة من طبيعتنا، أو ربما غيوم سابحة في السماء. تلك المشاهد أرادها نبيل الأظن سابحة في فضاء الغرفة، معلَّقة بخيطان شفّافة تتدلّى من السقف، وتحيط الغرفة من كلِّ الجوانب.
اختار الأظن أن يموضع المشّائين على شكل قافلة جامدة في الزمن، تواكب كلّ مجموعة من اللوحات، ومعها مسجّلات صوتيّة تبثّ وشوشات الشعر بالعربيّة والفرنسيّة بين الزوايا. في بداية التجهيز ــــ الرحلة، يشرئب تمثال برونزي بجسده إلى الأمام، تسمّيه فريديل «المراهق». ينظر باندهاش إلى لوحة حيث الشكل وانعكاسه كضفتي نهر أو كطريق مشقوقة بين الأرض والسماء. قد نختار أن نسمع هنا «مزمور» أدونيس: «أين تنتهي المسافة، أين يبطل الخوف (...) ضالّ ضالّ ولن أعود». أمّا هناك، حيث تخفت حدّة الدمار في اللوحة، فنجد تمثالين ينظر كل منهما إلى الآخر في عينيه، بشيء من التحدي أو حتّى البلاهة: إنّهما «المجنون» و«العاقل». لاحقاً، نقف أمام مجسّم من الأشلاء المنحوتة المعلّقة بخيطان تمتدّ من السقف كأنّ كلّ شيء يدور حوله في وسط الغرفة. جمل صيغت من الأعلى إلى الأسفل كلماتها من أشلاء بشريّة مقطّعة. «في شباك الهواء، هنالك نجوم، لا تفيد في شيء إلا في قياس الوقت»، يقول صلاح ستيتية.«الطفل»، من جمع المشائين أيضاً، يجلس قرب المجسّم يتفرج، يتأمل تاريخه حاضره ومستقبله. هنا تتناهى إلى مسامعنا شهادات الراحل بسام حجار، يقول: «والأحياءُ، أشقّاء لنا، حلموا ذات يوم أنّهم يحيون وصدّقوا. وما زالوا، أيّها الطيف، يصدِّقون».


حتى 30 تموز (يوليو) المقبل ــــ «قصر بيت الدين» (الشوف) ــــ للاستعلام: 01/373430