ولم تسكت شهرزاد عن الكلام المباحالقاهرة ــــ علا الشافعي
هل هناك شيء يجعل شهرزاد، التي قهرت شهريار بذكائها وحواديتها، تتوقف عن الحكي والبوح؟ كلا، لأنّ الزمان ـــــ مهما اختلف ـــــ ستظل شهرزاد تجيد الحكي، فالبوح هو طريقتها المثلى لتتحرّر وتغيّر واقعها، أو على الأقل تستعيد نفسها. هذا ما يؤكده الكاتب الكبير وحيد حامد والمخرج يسري نصر الله في فيلمهما «احكي يا شهرزاد» الذي يعرض في الصالات المصرية. تدور أحداث الشريط حول شخصيّة هبة يونس (منى زكي) مذيعة التلفزيون الناجحة، المتزوجة من كريم (حسن الرداد). هذا الأخير يشغل منصب نائب رئيس تحرير جريدة قومية، وكل هدفه أن يصبح رئيس تحرير الجريدة، وينتظر التغييرات المرتقبة. وفي السياق نفسه، يتعرّض لضغوط من بعض المسؤولين الذين يريدون من زوجته أن تكفّ عن إثارة الموضوعات المحرجة سياسياً للحكومة، في برنامجها «نهاية المساء... بداية الصباحوفي محاولة منها لإنقاذ حياتها الزوجية من الانهيار، تبدأ هبة سلسلة حلقات عن قضايا المرأة، رغم إدراكها أن تلك المسائل تحمل في جوهرها أبعاداً سياسية.... وهي لم تكن تتخيل إلى أي مدى يمكن أن تتقاطع أزمتها الشخصية مع الحالات التي استضافتها. هناك أماني (سوسن بدر) العانس نزيلة المصح العقلي بعدما أفلتت منها فرصة الزواج الأخيرة لأنها رفضت أن يمنحها الطرف الآخر الجنس من دون الحبّ... وهناك أيضاً صفاء التي تقضي عقوبة طويلة في السجن لارتكابها جريمة قتل... والدكتورة ناهد التي أجهضت نفسها، واعتقلت في تظاهرة فردية أرادت فيها فضح الرجل الذي خدعها (محمود حميدة)، صائد النساء وجامع ثرواتهن، وقد بات أحد أهم الوزراء.
تجعلنا شهرزاد نتساءل عن الحب الذي يؤدي إلى العنف والمرض النفسي والسجن، ونبحث عن المسؤول عن تسميم أرقى العلاقات الإنسانية: أهو المجتمع بتناقضاته وازدواجيته؟ أم استسلامنا لمنظومة خاطئة من القيم تتعاطى مع الحب والزواج بالطريقة نفسها التي تتعاطى فيها مع الصفقات المالية والسياسية؟
تلك الدراما التي صاغها وحيد حامد في «احكي يا شهرزاد»، حوّلها يسري نصر الله إلى صورة سينمائية شديدة الثراء تنضح بالتفاصيل: بدءاً من شكل الممثلين وطريقة أدائهم والتفاصيل الإنسانية التي لعب عليها. يبدو الفيلم كجملة موسيقية متصاعدة، تصل حد الصراخ في مشاهد كثيرة، وتحديداً في رواية الشقيقات صفاء (رحاب الجمل) وهناء (ناهد السباعي) ووفاء (نسرين أمين). ثلاث فتيات تحرقهن الرغبة، ويسعين لاستغلال سعيد الخفيف (محمد رمضان) العامل في المحل الذي تركه والدهن بعد وفاته. ويلعب معهن، وعليهن، شخصية الفتى اليتيم «جوعان جنس». وبعدما تكتشف الأخت الكبيرة صفاء خداعه لهنّ، تقتله لأنّها الوحيدة التي أحبته. وبهذا، يخيّم على الفيلم طيف مسرحية «جريمة في جزيرة الماعز» للكاتب الإيطالي أوغو بيتي، أو «بيت من لحم» ليوسف إدريس، مذكّراً الجميع أن مجتمعنا بعيد سنوات ضوئيّة عن التحرّر.
أجاد يسري نصر الله اختيار أماكن التصوير التي بدت كأنّها جزء لا يتجزأ من شخصيات الفيلم، وانعكست على أدائها. هناك صلة متينة بين الشخصيات وروح المكان. نرى لقطات لشقة المذيعة هبة التي توحي بالبرودة الشديدة رغم جمالها، ولقطات لشكل الحارة التي تعيش فيها الفتيات الثلاث: افتتحها يسري بلقطة «كلوز آب» للحائط الملاصق لمنزلهن الذي يسد عليهن المنافذ، وأيضاً مشهد اللقاء الأول الذي جمع هبة بصفاء التي ارتكبت جريمة قتل بسبب الحبّ، ونراها تخرج من بين «مانيكانات» تلبس فساتين الأفراح التي تعمل في تطريزها. إنّها تعيش كلّ يوم هنا مع حلمها المستحيل التحقق.
عندما تسأل يسري عن فكرة «احكي يا شهرزاد»، يجيب: ««ألف لية وليلة» واحد من أجمل الكتب التي عرفتها البشرية، إذ تحكي شهرزاد حواديتها لسبب واحد وهو التشبّث بالحياة. وإن لم تحكِ، فسيقطع شهريار رأسها كما فعل مع بنات جنسها».
قد يتساءل كثيرون عن خلفيّات هذا التعاون بين وحيد حامد ويسري نصر الله الآتيين من آفاق فنيّة مختلفة كليّاً. كيف لهذين العالمين أن يلتقيا: وحيد حامد بشخوصه الحية وحواره السياسي الاجتماعي اللاذع المباشر، ويسري بمشاغله الأسلوبيّة والفكريّة وخصوصية عالمه السينمائي. لعلّ الاثنين منجذبان إلى تلك الشخصية المصرية المأزومة التي ترفض الاستسلام لقهر الحياة والمجتمع. كما يلتقي أبطال صاحب «مارسيدس» وكاتب الأعمال («المنسي»، «اللعب مع الكبار»، «الغول»...) التي يحبها شباك التذاكر، عند تلك الرغبة في الحلم والتمرد على الواقع، وعدم الاستسلام لقهر الحياة والمجتمع، والقدرة على الوقوف من جديد.
«احكي يا شهرزاد» فيلم عن القهر بكل أشكاله، تلك السلسلة التي تبدأ من ممارسات السلطة بحقّ الأفراد ـــــ نساءً ورجالاً ـــــ الذين يعيدون إنتاج علاقات الاستغلال والقهر في ما بينهم على شتّى المستويات. فيلم يعيد الاعتبار إلى الحياة، رغم قسوته، ويدعو إلى الكشف والمصارحة. الفيلم عن شهرزاد وواقعها، ومنها إلى شهريار... لعلّه لا يتوقف عن الاستماع إليها.