تجربة فنيّة خاصة لمواجهة القبح البصريدمشق ـــ خليل صويلح
الفكرة راودت مهند ديب في الربيع الماضي: كيف نحافظ على ما بقي من بيوت دمشق القديمة أمام زحف الأسمنت؟ ليس لدى هذا النحّات الشاب (1973) إجابة شافية. خلال مروره كل يوم في حي سوق ساروجة متوجهاً إلى مشغله «شغل وفن» الذي أسسه منذ أشهر ليكون ملتقى للفنانين الشباب، كان يصطدم ببرج أسمنتي هنا، وحفريات هناك، وأصوات جرافات تنبش أحشاء المدينة القديمة، وبيوت طينية في مهب الهدم أو الانهيار. الحي القديم يلفظ أنفاسه على دفعات، بعدما أصدرت محافظة دمشق قراراً باستملاكه منذ حوالى ثلاثة عقود. هذا الأمر لم يشجّع الأهالي على ترميم بيوتهم، بانتظار مصيرهم النهائي المعلّق في أدراج مكاتبأمانة العاصمة. الشارع الرئيسي في سوق ساروجة استعاد عافيته فجأةً، وإذا به محطّ أنظار جيل جديد من الشباب، وجد في المقاهي الشعبية المرتجلة التي انتشرت في المكان متنفّساً له. على بعد أمتار يقبع بيت محمد علي العابد، أول رئيس سوري بعد الاستقلال. لم يكن البيت متحفاً، كما كنا نتوقَّع، بل غرفاً مستأجرة تحوّلت إلى مشاغل لصناعة الأحذية إثر تعرضه منذ سنوات لحريق، قُيِّد ضد مجهول.يقول مهند ديب: «فكَّرت أن نقاوم الأسمنت بالأسمنت، فخطر ببالي إقامة ورشة عمل تحت عنوان «الأسمنت في التشكيل»، ولاقت الفكرة صدى وحماسة لدى نحو 50 تشكيلياً شاباً». بدأت الورشة عملها في مشغل «شغل وفن» منذ قرابة شهر ونصف. كانت النقطة المشتركة جعل الأسمنت مادةً أساسية في اللوحة، وما عدا ذلك، فلكلِّ فنان حريته الكاملة في بناء تصوراته الخاصة لإنجاز عمله. في مرحلة لاحقة، انضم تشكيليون عرب وأجانب استهوتهم الفكرة، ليصل عدد المشاركين إلى 132 فناناً، فكانت الحصيلة حوالى 150 لوحة، يستضيفها «المركز الثقافي الفرنسي» في دمشق.
يخبرنا ديب أنَّ المشروع استهلك حوالى طنين من الأسمنت، وكمية كبيرة من الخردة، ويعلِّق ضاحكاً: «كنت أرغب في أن يحسّ زائر المعرض بكراهية إضافية للأسمنت، وأن يطارده قبح الرمادي الذي يشبه مدخنة ضخمة تخنق برائحتها فضاء المدينة». اللوحات المتراصة على جدران الصالة تبث رسائل متتالية ومتناقضة عن القبح البصري. إنّها تدق ناقوس الخطر في مدينة فقدت هويتها الشرقية الأصيلة، واستبدلتها بأبنية خانقة ليست من نسيجها العمراني، أخذت تتسلل بين البيوت الطينية. أسمنت ومسامير وأسلاك كهربائية، ومعادن صلبة تتقاسم أعمال المعرض، في مقترحات بصرية تتفاوت قيمتها الجمالية والبلاغية. بعض الفنانين ذهب إلى محاولة تجميل الأسمنت كنوع من الإقرار بواقع شرس يفرض نفسه بقوة ليبطش بكل ما عداه. فيما توجه بعضهم الآخر إلى تأكيد الصلة بين قبح المادة الأصلية والمنتوج البصري المنبثق عنها، فأتت أعمالهم بمثابة شيفرات سلبية لما آلت إليه الهوية المعمارية للمدينة. يقترح فادي عساف منظراً لافتاً: بيانو في أسفل اللوحة تتلاشى أصابعه وتتشقق أمام زحف الأسمنت من الأعلى، ليحجب معزوفة موسيقية من مقام آخر. أما رشا لبابيدي فتغرز أسلاكاً كهربائية مكشوفة ومتشابكة في جسم اللوحة، قبل أن تؤطّرها بالأحمر. ميراي أميرزيان تشكّل من الأسمنت حشوداً بشرية شرسة في مواجهة إنسان يقبع في زاوية اللوحة باستسلام. من ضفة أخرى يقترح حسكو حسكو صندوق بيض فارغ إلا من بيضة محاصرة. آخر يجلب جزمةً عسكرية محشوّة بالمسامير ويلصقها على جدار كالح. هناك دماء تسيل من مكانٍ ما، في إشارةٍ ربما إلى موتٍ مجازي يحاصر الجميع. وجوه فاحمة وصرخات استغاثة، وأجساد متعانقة يلفها الأسود، فتغيب ملامحها في العتمة.
تتجاور في المعرض تقنيات مختلفة، يغلب على معظمها النحت الجداري «الرولييف»، ما يضع هذه اللوحات أمام أسئلة تتعلق بقدرة مادة الأسمنت على صوغ أشكال استخدامية يمكن استثمارها في مشاريع تجميلية، أو في أعمال الديكور. هذا ما يشير إليه مهنّد ديب «باعتبار الأسمنت بات قدراً في العمارة الحديثة».على جدار آخر سنتذكر إشارة إضافية لقبح الأسمنت كرمز للعنصريّة هذه المرّة، من خلال صور فوتوغرافية ملتقطة لمقاطع من الجدار العازل الذي بنته إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة. نرى هنا كيف تحوّل هذا الجدار إلى معرضٍ للوحات مرتجلة، ومكان لكتابة الشعارات المضادة للاحتلال، وسجن مفتوح لعشرات القرى الفلسطينية المعزولة عن محيطها وجذورها. هناك أيضاً قبح العشوائيات التي تحاصر المدينة من جهاتها الأربع بالرمادي الداكن، في أبنية مكشوفة تعاند أدنى درجات الجمال ونبل الطين والحجر. يفكّر مهنّد ديب في أن ينقل أعمال المعرض إلى مدنٍ سوريَّة أخرى، وربما سيخرج باللوحات إلى شوارع سوق ساروجة نفسها. هكذا قد يتعرَّف المارة عن كثب إلى ما آلت إليه حال هذا الحي العريق المهمل، وإلى خطر السرطان الأسود على ما بقي من بيوت قديمة تُرمّم على عجلٍ بمكوّنات الأسمنت، «الطين يرفض الأسمنت»، يقول التشكيلي. لعلَّ في هذه العبارة تكمن فلسفة المعرض ومقاصده
البصرية.


حتى 23 تموز (يوليو) في «المركز الثقافي الفرنسي» (دمشق) ومشغل «شغل وفن» (سوق ساروجة). www.ccf-damas.org