تحيّة بيروتيّة لهدهد يحمل البشارة

حدث نادر أعدّت له الفنّانة والأكاديميّة زينة معاصري مع طلابها في الجامعة الأميركية في بيروت: تكريم الفنّان والمصمّم المصري المعروف، من خلال نتاج مرحلته اللبنانيّة. لكن عارضاً صحيّاً حال دون مجيء التوني، وسيفتتح معرضه هذا المساء في غيابه... أما النشاطات الأخرى المتمحورة حوله، فتأجلت إلى وقت لاحق

محمد شعير
لا ينسى حلمي التوني (1934) ذلك اليوم من شباط (فبراير) 1973. ذهب إلى عمله مشرفاً فنّياً لإصدارت «دار الهلال» حيث اكتشف صدور قرار من الرئيس السادات بفصل 104 صحافيين لمطالبتهم بإنهاء حالة اللاحرب واللاسلم مع إسرائيل. كان هو الفنّان الوحيد في قائمة ضمّت: نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وأحمد بهاء الدين، وألفريد فرج، وجمال الغيطاني الذين نُقلوا للعمل في هيئة الاستعلامات. يضحك التوني: «دخلت إلى رئيس التحرير يوسف السباعي أسأله عن القرار، فأجابني: الشيوعيون ضحكوا عليك». لم يكن التوني شيوعياً بطبيعة الحال. قضى شهرين لا يعرف ماذا يفعل. أراد عرض أعماله، لكنّ قاعات القاهرة أقفلت في وجهه. وحده قصر ثقافة أسيوط استضاف أوّل معارض الفنان المغضوب عليه.
هكذا وجد نفسه في بيروت. كانت نقلةً كبرى في حياته: «هناك، استفدتُ من انفتاح لبنان على الغرب وكانت الطباعة متقدمة، والإمكانات متوافرة مقارنة بمصر ذات الإمكانات الاقتصادية المحدودة بسبب الحرب». التحق بـ«المؤسسة العربية للنشر» بسبب علاقته بالناشر عبد الوهاب الكيالي، وبالمقاومة الفلسطينية التي كانت انتقلت إلى بيروت. بعد أيلول الأسود، راح يصمّم ملصقات المقاومة وبوستراتها، كذلك صمّم لوغو جريدة «السفير» التي أسهم في إنشائها.
لا يملك التوني اليوم أيّاً من تلك البوسترات. وحين أتته الفنانة والباحثة اللبنانيّة زينة معاصري إلى القاهرة بأسطوانة رقميّة عليها مجموعة من نتاجات تلك المرحلة، دمعت عيناه. كانت مفاجأة أن يرى تلك الأعمال التي ضاعت تحت ركام بيته البيروتي في الاجتياح الإسرائيلي. إنّها نواة معرض «سنوات بيروت (1973ـــــ1983)» الذي تحتضنه الجامعة الأميركية في بيروت، ابتداءً من هذا المساء، بمبادرة من صاحبة كتاب «علامات النزاع» التي أشركت طلابها في قسم الديزاين في الإعداد لتلك التظاهرة. لكن الفنّان فوجئ، قبل ساعات من حزم حقائبه إلى بيروت، باشتداد آلام الظهر، ما استدعى دخوله المستشفى لإجراء جراحة في فقرات الظهر. وسيفتتح المعرض عند السادسة من مساء اليوم في غيابه... لكنّه يأمل أن يتمكّن من العودة إلى بيروت لتقديم محاضرة عن تجربته، وإدارة ورشة عمل مع طلاب قسم الديزاين في الجامعة.
لم يتوقع التوني أن تستمرّ «هجرته» في بيروت لأكثر من عقد... حين دُمِّر منزله في الروشة بعد الغزو الإسرائيلي، حمل ابنته في رحلة شاقة إلى دمشق ثم القاهرة. وكاد أن يدفع حياته ثمناً عندما استوقفته دورية إسرائيلية. يتذكّر: «كانت المرة الأولى التي أرى فيهاً جندياً إسرائيلياً. أدهشني أنّه ضعيف وصحته معتلة. لم يكن يتمتّع بوجاهة الجنود المصريين. فقلت في نفسي: هؤلاء هم مَن يخيفوننا»!
بعد العودة، بدأ التفكير في «اللوحة» بدلاً من الغرافيك والتصميم. يقول:«عندما بدأنا الرسم، قررنا أنّ هذا ليس أوان اللوحة، فالجماهير لا تذهب إلى الغاليريهات. قررنا أن نذهب نحن إلى الجماهير، فعملنا في الصحافة. لكن بعد بيروت، وعيت خطورة الغرق في بئر الصحافة، وإن كان انخراطي فيها جاء انسجاماً مع موقفي السياسي والاجتماعي حينذاك». هكذا اتجه إلى اللوحة، فأقام عام 1985 أول معارضه بعد العودة: «وجدت أن الموروث الشعبي هو أعظم الروافد». الفنان الشعبي مزج بين كل الحضارات: فرعونية قبطية إسلامية شعبية. «أبحث عن لغة الفن الشعبي و«الشكل». وقد وجدته في الرسوم الحائطية المعروفة في الصعيد والريف، ورسوم الوشم وبدأت أهضم الرموز. في المعتقد الشعبي مثلاً، نجد شكل السمكة في الوشم يرمز إلى الخصوبة، بينما العصفورة دليل على الذكاء والتنبؤ». هكذا، بدأ بالفن الشعبي، ثم القبطي وأخيراً أقام معرضه مستلهماً الفنّ الفرعوني.
رغم تعدد المراحل الفنيّة في عالمه، إلا أن ما يجمع لوحاته هو تلك البكارة والطفولة التي تشكّل عالماً متكاملاً من عناصر الفن الشعبي. حتى بمرحلته الفرعونية التي حملت عنوان «نفرتاري وأخواتها» الذي حاول فيه فكّ طلاسم جماليات الفن المصري القديم، عبر ثلاثين لوحة أشبه برحلة بحث عن الهوية المصرية لمناهضة التوجه شبه الرسمي لتقليد الفنّ الغربي بدعوى الحداثة. لم تكن هناك قطيعة كاملة مع مراحله السابقة: جميلات الجميلات في مصر القديمة «نفرتاري» تحمل ملامح فتيات الريف المصري الآن. هل يُعد هذا ارتداداً عن مفهوم القومية العربية التي يدافع عنها؟ يجيب: «سنوات بيروت علّمتني أنّ الحسّ الحضاري المصري لا يتعارض مع القوميّة العربية».
على باب بيته، علّق إحدى رسومه الصغيرة لهدهد يحمل وردة، وهي أيضاً الرسمة التي طبعها على بطاقته الشخصية. يضحك: «هناك رموز تحمل قيماً شاعرية، أبعدناها عن حياتنا. الهدهد يعكس مناخاً أسطورياً ميتافيزيقياً لا يكشف أسراره بسهولة. لكنّه قريب من عالم التبحّر في التاريخ، والظواهر الخارقة، وعالم كليلة ودمنة، وحكايات ألف ليلة وليلة، وبطولات أبو زيد الهلالي، وسيف بن ذي يزن، وتداعيات زرقاء اليمامة». ويستدرك الفنان الشامل الذي يراهن على الأطفال باعتبارهم الأمل: «الهدهد رمز البشارة والأمور لن تستمر بهذا السوء».