بعد عام على تأسيسها، غزا صدام الكويت، واندلعت حرب الخليج واعترفت «منظمة التحرير» بإسرائيل، وبدا أنّ عالماً عربياً جديداً ينشأ، فظهرت الحاجة إلى صحافة لا تهادن الأنظمة التقليدية. لكنّ الصحيفة الشهيرة أصغت إلى نبض الشارع بصدق واقعي تارة، ومسايرة شعبوية طوراً
محمد خير
صدّق أو لا تصدق: «القدس العربي» تصدر على ورق، لا على الإنترنت فقط. ورغم أنك أيّها القارئ «العربي» لم تمسك نسختها الورقية، بل تعرّفت إلى الصحيفة الشهيرة ـــــ كملايين غيرك ـــــ عبر شبكة الإنترنت... إلا أنّها صحيفة كأي صحيفة، تدخل المطبعة ثم يتسلّمها باعة الصحف في كل مكان، ما عدا معظم أنحاء العالم العربي السعيد. يستخدم الناس صيغة المؤنث لدى وصف القدس، يقولون «القدس عربية» أو «القدس العربية». أما الجريدة التي تحتفل هذه الأيام بعيدها العشرين، فاختارت لنفسها صيغة المذكّر: «القدس العربي». ورغم الملاحظات والعداوات والانتقادات التي طالت تلك التجربة الصحافية الناجحة، إلا أنّها تكاد تكون الوحيدة التي منحت معنى «غير نفطي» لمصطلح «الصحافة اللندنية». لو كان لتلك الصحافة سرب، لحلقّت «القدس العربي» خارجه بالتأكيد.
من مكتبه الصغير في king street في لندن، بدأ عبد الباري عطوان تجربته في أجواء مختلفة عن واقعنا اليوم، في 1989. كان لا يزال كل شيء هادئاً على «الجبهة العربية»: محاولات تعاون عربية اقتصادية، وعودة تدريجية للعلاقات المصرية العربية، وحدود عراقية ـــــ إيرانية مستقرة بعد عام من وقف إطلاق النار، وانتفاضة فلسطينية شعبية مستمرة بثبات. في هذه الأجواء، تأسست الجريدة بتوزيع محدود، لكنّه كافٍ للاستمرار. أما الهدوء العربي فلم يستمر. بعد عام، غزا صدام حسين الكويت، واندلعت حرب الخليج الثانية. جاء الأميركيون واستقروا، وقاتل العرب عرباً، واعترفت «منظمة التحرير» بإسرائيل، وبدا أنّ عالماً عربياً جديداً ينشأ فيتكون معه وعي يحاول استيعابه ثم يرفضه. في زمن كهذا، ظهرت الحاجة إلى صحافة تقول ما لا تريده الأنظمة العربية التقليدية، وإعلام يتحرك بين تناقضات تلك الأنظمة. ليس غريباً إذاً أن تتأسس ـــــ لاحقاً ـــــ تلك العلاقة الوثيقة بين عبد الباري عطوان و«الجزيرة»، وهو أكثر الوجوه ظهوراً على شاشتها. كذلك، إنّ «مانشيتات» صحيفته لها نصيب الأسد في برامج القناة القطرية. بل ها هو عطوان نفسه يقول أخيراً لصحيفة «العرب اليوم» الأردنية، إنّ «الجزيرة» «بنت أسلوبها على «القدس العربي» ونجاحها وتجربتها».
وبغض النظر عن التأسيس المعروف لـ«الجزيرة»، في كنف خبراء عرب عملوا في «بي بي سي»، إلا أنّ كلام عطوان لا يخلو من حقيقة. بين التشابك المعهود في سياسات الأنظمة العربية ومصالحها، تمكّنت «القدس العربي» ـــــ تماماً كـ«الجزيرة» لاحقاً ـــــ من الإصغاء المرهف إلى نبض الشارع. اتّبعت الصحيفة نغمات ذلك النبض وتجاوبت معه بكل ما يعنيه ذلك من صدق واقعي تارة، ومسايرة شعبوية طوراً. ومهما حاول عطوان أن ينفي أي علاقة مباشرة له بصدام حسين، أو زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن، ومهما حاول إعادة تفسير حديثه عن «فضلهما عليه»، بدعوى أنّه كان فضلاً من باب «موقفه السياسي» الذي انعكس زيادة في التوزيع والرواج لجريدته، إلا أنّ ما لا يمكن التملّص منه، هو إذكاء أدنى درجات التعصّب القومي والسلفي، أو على الأقل السباحة مع الموجة الشعبية التي حوّلت صدام وبن لادن إلى بطلين. لم ينافق عطوان الأنظمة العربية، لكنّه نافق المزاج الشعبي كثيراً، وهو أمر قد يكون ـــــ أحياناً ـــــ الأشد خطورة.
لكنّ اختصار تجربة «القدس العربي» في موقفها السياسي، واختصار ذلك الموقف في صدّام وبن لادن، أمر فيه ظلم شديد لتجربة أبدت ـــــ رغم كل شيء ـــــ قدراً كبيراً من التميّز، ونجحت ـــــ رغم الفقر التقني لموقعها على الإنترنت ـــــ في تقديم مادة غنية وجذابة، واجتذبت أقلاماً عربية ذات مكانة، وضمّت قسماً ثقافياً حيوياً، وإن انفرد ذلك القسم بغلبة الرأي على حساب المتابعة الصحافية. كذلك منحت الجريدة أقلاماً مهاجِرة ومحاصَرة مساحةً للكتابة والتنفس، إلى جوار قسم للترجمات العبرية هو بين الأعرق في الصحافة العربية.
مثلها مثل عدد من التجارب الصحافية، وخصوصاً الناجحة منها، أثيرت وتثار حول «القدس العربي» أقاويل تتعلّق بموضوع التمويل. لكن لا أحد قدّم حتى الآن دليلاً يدين الجريدة أو صاحبها. كذلك إن النجاح الملحوظ لها على مدى عقدين، كفى الجريدة شائعات الاستناد إلى ذلك الجيب أو هذا النظام، هي التي لم توفّر نظاماً عربياً، ملكياً أو رئاسياً من نقدها المبرّح.
ومن اليوم إلى أن يُسمح لـ«القدس العربي» بأن تطبع وتوزّع في كل الوطن العربي، لا يمكن أن نتحدث عن حرية صحافة. وإلى أن يستطيع «الفلسطيني» عبد الباري عطوان أن يتنقل في العالم العربي من دون جواز سفره البريطاني، لا يمكننا أن نحلم بـ«قدس عربي»، ولا «قدس عربية».


سيرة لاجئ

ولد عبد الباري عطوان عام 1950 في مخيّم دير البلح للاجئين الفلسطينيين في غزة. في عام 1970 التحق بجامعة القاهرة لدراسة الإعلام، ثم حاز دبلوماً في الترجمة من الجامعة الأميركية في القاهرة. بعد التخرج، عمل لجريدة «البلاغ» في ليبيا، ثم جريدة «المدينة» في السعودية. وفي عام 1978، انتقل إلى لندن، حيث استقر ليعمل في جريدة «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة». أصدر عدداً من الكتب أبرزها «القاعدة التنظيم السري» الذي يروي فيه لقاءه بأسامة بن لادن، إضافةً إلى كتابه «وطن من كلمات» (دار الساقي) الذي يروي سيرته الذاتية. يذكر أنّ «القدس العربي» قد مُنعت من التوزيع أكثر من مرة في عدد من الدول العربية.