رجل بعينين ناتئتين ولحية برتقاليّة رشاشه معلّق إلى الكتف. وهذا الحوار:«- لم تشهد فرنسا حتّى الآن أي اعتداء إرهابي
- لدينا حتى آخر يناير لتقديم التمنيات بالعام الجديد».
تلك هي الرسمة الأخيرة لـ Charb (ستيفان شاربونييه) الصادرة في العدد الجديد من «شارلي إيبدو». لقد استشرف فنّان الكاريكاتور، المصير المفجع الذي كان ينتظره ظهر أمس، مع مجموعة من رفاقه، في مكاتب الجريدة الفرنسيّة الساخرة التي يرأس تحريرها. ملثمان مدججان بالسلاح، مدرّبان جيداً حسب الشهود، اقتحما مكتب الجريدة من باريس، وأسقطا شرطياً.

في الداخل كانت أسرة تحرير «شارلي ايبدو» منهمكة بنقاشات اجتماع التحرير. استهديا على «شارب» وأردياه قتيلاً، بعد «التكبير». ارتكبا مجزرة لم تعرف فرنسا ببشاعتها منذ عام ١٩٦١، ثم لاذا بالفرار، وهما يصيحان بلكنة مغاربيّة: «لقد انتقمنا للرسول». بين القتلى إلى جانب شارب، جورج وولينسكي أحد معلّمي الكاريكاتور، وزميله كابو، وتينيوس وآخرون… حالة الذهول التي وحّدت الطبقة السياسية وأهل الإعلام والرأي العام في فرنسا، من الطبيعي أن تهزّنا، قبل سوانا. فتلك الجريمة الهمجيّة تشكّل اعتداءً على حريّة التعبير والديمقراطيّة، ديمقراطيّة كلّما حاولنا الاقتراب منها، نحن العرب، صودرت من جديد، برعاية الغرب. وتعنينا الفاجعة بصفتنا الضحايا اليوميّين، لهذا الوباء الأسود الذي تذوق فرنسا للأسف بعض مرارته اليوم.
نرفض الخوض الآن، في أي نقاش له علاقة بالسياسة التحريريّة لـ«شارلي إيبدو» التي أثارت جدالات حادة داخل فرنسا وخارجها، منذ إعادة نشرها الرسوم الدنماركيّة في عام 2006، وعاشت منذ ذلك الحين تحت وطأة العنف والتهديد. فالتطرّق إلى هذه المسألة اليوم، لا يمكن إلا أن يكون تجاهلاً لهول الكارثة التي تطغى على كل ما عداها، وتبريراً للعنف الهمجي الذي يتذرّع بالدين، ليفضح مرضاً خطيراً ضارباً في أعماق الجماعة المأزومة، المتروكة على الهامش، منذ خالد قلقال وربّما قبله. هذا العنف الأعمى الذي لم نصدّق حتّى الآن أنّه وقع فعلاً في قلب باريس، في وضح النهار، يقول بالدرجة الأولى قهراً عميقاً - اجتماعياً وطبقياً وثقافياً وسياسيّاً - لم تستمع إليه الحكومات المتعاقبة في فرنسا بما فيه الكفاية، وربّما أسهمت أحياناً بتعزيزه بأشكال مختلفة. ذلك هو الوجه الآخر لمأساة «شارلي إيبدو» الذي لن يتناوله، إلا قلّة قليلة من المعلّقين والسياسيين. فهو يقودنا إلى الحديث عن السياسة الخارجيّة لفرنسا في الشرق الأوسط، عن الخيارات الخاطئة، والتحالفات الفاوستيّة. هل نستعيد أعداد الشبان الفرنسيين الذين وجدوا أنفسهم «يجاهدون» في بلادنا، قبل أن يعودوا للجهاد في شارع نيكولا أبير؟ هل نسأل كيف نبتوا أصلاً، عشباً ساماً على ضفاف الجمهوريّة؟
لكن لا، هذا الجدل أيضاً لا لزوم للتمادي فيه اليوم، لكي لا يبدو استغلالاً للموقف، أو تشويشاً على لحظة الحداد والحزن والتضامن. نصمت إذاً، ونغالب دموعنا أمام فنّانين طبعوا ذوقنا ووعينا، سقطوا برصاص رجلين ضائعين لا يتذوّقان الطرافة. نسدّد إصبع الاتهام إلى المجرم الأكبر الذي كلّفهما «الدفاع عن الدين». أي دين؟ تلك المجزرة ستزيد حالة الذعر والريبة والتشنّج، وسيدفع ثمنها الفرنسيون العرب والمسلمون، وستتفاقم مناخات الإسلاموفوبيا التي تنخر بلد جاك بيرك ومكسيم رودنسون،وقد أصابت النخبة ونجوم الإعلام من ألان فيلكنكروت إلى ميشال ويلبيك، مروراً بإريك زيمور. وستزيد المجزرة من حظوظ اليمين المتطرّف، في الوصول إلى السلطة. وداعاً وولينسكي. وداعاً كابو. وداعاً شارب… تحيّة كبرى لكم من شعب ناجي العلي، من بلد جورج ابراهيم عبدالله، من شركاء في الحلم والجرح يدميهم القاتل نفسه. هل يأتي يوم يسمع فيه الرئيس فرنسوا هولاند كل هذا الصراخ المكتوم؟