تمرّد على والده الذي أراده أن يصبح مثله قاضياً ويترك الفن: «سيعرفك الناس يوماً بأنك والد صلاح جاهين». محمد توفيق يرسم بورتريه جديداً ومختلفاً، للشاعر والرسام المصري المعروف، مشيراً إلى أن سرّ خلود صاحب «على اسم مصر» يمكن اختصاره في ثلاث كلمات: البساطة والبراءة والمصرية
محمد شعير
إنّه صلاح جاهين (1930 ــــ 1986). سبيكة من الإبداع الخالص، يذهب في الفنّ إلى حدوده القصوى، برع في الشعر والكاريكاتور والتمثيل وكتابة الأغنية. أمنية واحدة لم يحققها: أن يكون راقص باليه. وهو في كلّ الفنون التى مارسها، كان يريد فقط أن يكون نفسه: تمرّد على والده الذي أراده أن يصبح مثله قاضياً ويترك الفن، لكنّه تحدى أباه: «سيعرفك الناس يوماً بأنك والد صلاح جاهين». وتمرّد على اسمه «محمد صلاح الدين حلمي» واختار أن يكون فقط «صلاح جاهين»!
محمد توفيق يحاول أن يرسم بورتريه جديداً مختلفاً عن جاهين في «أيام صلاح جاهين» (دار العين) يبحث فيه عن سر خلود جاهين في ثلاث كلمات: البساطة والبراءة والمصرية. وهي الكلمات التي علّقها في برواز في صالون منزله إلى جوار صورة جمال عبد الناصر. كتاباته لم تكن مجرد كتابات عابرة، حتى الفنون التي لا تحتاج إلى مجهود مثل العديد من الإعلانات الشهيرة في السبعينيات والثمانينيات، كانت تحمل «رؤية فيلسوف كبير تختلف نظرته وتتعمق باتساع مواهبه».
باختصار، كان «الفن مزاجه وملعبه»، باعتباره نوعاً من اللعب مهما حوى أفكاراً ومواقف سياسية أو اجتماعية أو فلسفية. الفن كان القيمة العليا والأولوية الكبرى فى حياته.
لم يكن يعنيه شيء آخر، ربما لهذا عندما رحل، كان مديناً بألفي جنيه لأنّه امتلك ناصية كل المواهب إلا موهبة جمع المال: «عندما يذهب إليه أحد الفنانين الشباب يطلب منه أغنية كان يقول بطريقة مسرحية: «أنا عايز ألف جنيه» كأنه يطلب رقماً فلكياً! وبعد أن يقول له هذا الفنان: «يا عم صلاح أنا نفسي أنجح بيك» ينسى جاهين كل شيء ويجلس معه أولى جلسات العمل من دون أي شروط مادية، رغم أنه في هذا التوقيت كان شعراء أقل منه قيمة ومكانة يشترطون الحصول على خمسة آلاف جنيه قبل أن يبدأوا العمل فيها.
يبدأ الكتاب بولادة جاهين. ومن المفارقات أنّه ولد في البيت والتوقيت نفسيهما اللذين ولد فيهما الملحن الشهير بليغ حمدي. وعاشا معاً السنوات الثلاث الأولى. والغريب أنّ بليغ لم يلحّن أي أغنية من كلمات صلاح جاهين مطلقاً، حتى إنهم عندما سألوا جاهين عن سبب ذلك قال ممازحاً: «شكلي ضربته وأنا صغير ولسه هو شايل في نفسه مني». أما بليغ فقال: «أشعار جاهين لا تحتاج إلى تلحين لأنّها «متلحنة جاهزة».
حتى سن الـ 14، كان جاهين «أخيب تلميذ في الرسم» على حد وصف شقيقته؛ لأنه كان يرسم من خياله ولا يلتزم بتعليمات مدرس الرسم. وظلت أزمته مع الرسم قائمة حتى جاء مدرس جديد يدعى «أستاذ أرناؤوطي» نحّى المنهج المقرر جانباً ولم يفرض على التلاميذ رسم موضوعات الطبيعة الصامتة التي كان يكرهها جاهين. وأخذ يحكي لهم بعض القصص الخيالية وقصص الأدب العالمي التي كان يهدف منها إلى كسر جمود الرسوم التقليدية التي اعتادها التلاميذ. وهنا وجد صلاح متنفساً لقدراته الفنية الحرة التي لا تعترف بالمحفوظات والقوالب النمطية. لذلك عندما طلب المدرس رسم «غابة تهب عليها الرياح»، كانت تلك الرياح بمثابة مولد الكهرباء الذي أضاء الطريق أمام موهبة جاهين التي هبّت بعد سنوات رياحها على فن الكاريكاتور، فغيرته وتحوّل جاهين إلى جامعة تخرج منها المبدعون على مر العصور. وجامعة جاهين لم يتخرّج منها فقط عباقرة الكاريكاتور في مصر، أو شعر العامية، هناك أيضاً أحمد زكي، سعاد حسني، شريف منير، نيللي وعشرات آخرون!
ورغم أن السياسة «مهلكة» كما يقول جاهين في إحدى رباعياته، إلا أنّه كان منشد الثورة، التقى حلمه بالمدينة الفاضلة التي تمناها، مع أحلام النهضة لدى عبد الناصر، فاندفع بصدق ليغني للثورة ويبشر بأحلامها. لكنّ نكسة 67 جاءت لتحول الحلم إلى كابوس، وكان رحيل عبد الناصر الأقسى عليه. شعر بأن مثله الأعلى مات، وأن آخر أمل في تحقيق حلم المدينة الفاضلة قضى عليه الموت.
وعندما حكم السادات مصر وظن أنّ جاهين سيناصره، فوجئ بأن «مفيش بينهم كيميا»، فقد كان صلاح لا يحب السادات، بل كان يعانده بكتابة قصيدة جديدة في «الأهرام» كل عام في ذكرى وفاة عبد الناصر، ما أغضب السادات. في تلك الفترة، بدأت حملة هجوم شديدة على عبد الناصر، ثم على جاهين. وتحت ضغط الهجوم، أعلن «ندمه» على أغنياته، لكن بعدما استعاد ثقته بنفسه، عاد ليؤكد: «لست نادماً على ما كتبته من أغانٍ للثورة. لقد أخطأت بما قلته عنها أخيراً. لكن لحسن الحظ لم يصدق الناس ما قلت».
النكسة كانت بداية انكسار جاهين، لكن الانكسارة القاتلة كانت في كامب ديفيد. بعد 67 لم يتوقف جاهين عن الكتابة، ولم ينسحب من الحياة ولا من الحلم، حتى عندما تعرض للهجوم في السبعينيات. انسحابه من الحياة بدأ مع كامب ديفيد، وهذه الانكسارة عبّرت عن نفسها في قصيدته الشهيرة «على اسم مصر».
في ليلة 16 نيسان (أبريل) 1986، ليلة الغارة الجوية الأميركيّة على ليبيا التي سقط فيها المدنيون، دخل جاهين غيبوبة الموت التي كانت كل الأحداث المحيطة به تدفعه إليها: تلاميذه تطاولوا عليه، وقال بعضهم إنه انتهى مع عصر عبد الناصر؛ ونسوا أنه كان الجبل الذي صعدوا عليه ليراهم الناس نجوماً في السماء.