بيروت عاصمة عالميّة للكتاب، فماذا عن المدن الأخرى؟... الفيحاء درجت على احتضان تقليد سنوي بات جزءاً من روحها. جولة على التظاهرة التي تُختتم غداً
سناء الخوري
شوارع طرابلس عاصمة الشمال اللبناني، تكاد تخلو من المارّة عند المغيب، لكنّ أجواءها تشهد تغييراً طفيفاً أثناء فعاليات «معرض الكتاب» السنوي. المعرض الذي تنظّمه «الرابطة الثقافيّة»، تُختتم دورته الخامسة والثلاثون غداً، بعدما بثّت شيئاً من الحيوية في حياة المدينة. المشاركة المترددة في الدورتين السابقتين، واضطرار «الرابطة» إلى تعليق دورة العام الماضي في يومها الخامس نتيجةً للأوضاع الأمنيّة، عوامل لم تحل دون إقامة المعرض هذا العام، على أبواب الانتخابات النيابيّة. «معرض الكتاب» يحتفظ بالمرتبة الأولى على سلّم الأحداث الثقافية في الشمال، نظراً إلى عراقته وضخامته، وهذا ما ترى فيه «الرابطة الثقافيّة» وقوداً لاستمرارها بهذا التقليد. أمين سرّ «الرابطة» رامز فرّي يقول إنّ «المعرض ليس معرض كتاب فحسب، بل نشاط ثقافي متكامل تواكبه ندوات وأمسيات شعريّة ومحاضرات ومعارض، يعوّض عن ندرة الأنشطة المشابهة على مدار العام».
عراقة المشروع ليست السبب الوحيد في حضوره الطاغي، بل تمثّل إقامته في «معرض رشيد كرامي الدولي»، عامل جذب. من مبنى «الرابطة» في شارع الثقافة، حيث انطلقت في عام 1974، انتقلت التظاهرة إلى «معرض رشيد كرامي» منذ 12 سنة، لتحتل القاعة الممتدّة على 12 ألف متر مربَّع، في ذلك الصرح الضخم الذي صمَّمه المعماري البرازيلي أوسكار نيميار وأشرف على بنائه منذ 1963.
عندما تطأ قدماك المدخل، تبهرك فتحة السقف الزجاجيّة على شكل عين ضخمة، ويذكّرك النمط المعماري بلمسات نيميار على أبنية برازيليا. جناح «مكتبة جرّوس»، وجناح «دار الشمال» قبالتها، وجمعٌ من الشابات بحجاباتهنّ المزركشة، تنسيك برازيليا وتعيدك إلى طرابلس. نسأل المناوب في جناح «جرّوس» عن الإقبال، يجيب:«جيّد، لكنّه يتراجع كلّ عام، ويفتقد الوهج المعهود». بلال مجذوب من «دار الأمل والسلام»، يقول بتهكّم: «قلّة من المثقفين تقرأ من أجل «غذاء الروح» بعدما كشفت اللعبة الكبيرة»، ويضيف: «بيع كتب الأطفال مرتفع، وكتب الحرب اللبنانيّة تغوي الناس، فيما يتصدّر كتاب الطبخ لائحة المبيعات». ونقترب من «بسطات» كتب علّق فوقها: «الكتاب بألفي ليرة لبنانيّة». نسأل علي حمود من «المؤسسة الحديثة للكتاب» عن السبب، فيقول: «بدنا نعمل «همروجة»... أفكر بفتح «بسطة» جديدة بـ500».
بين أجنحة الجامعات الشماليّة كـ«البلمند» و«الجنان»، وبعض المعارض التشكيليّة، وأجنحة الأسطوانات المدمجة وأجهزة الكومبيوتر، نبحث عن الدور الكبيرة. «تشارك هذه الدور كـ«الآداب» و«الساقي» و«الريّس» من خلال منشوراتها في المكتبات... لكنّها لا تشغل أجنحة خاصة في المعرض»، يخبرنا رامز فرّي، لافتاً إلى أنّ «صعوبة نقل التجهيزات من بيروت إلى الشمال هي حجّة هذه الدور الرئيسة في عدم الحضور». مثال بليغ آخر على غياب الإنماء المتوازن الذي يعطي للعاصمة الحقّ الحصري في المعارض الكبرى، دون سواها من المدن والمناطق... هنا، تشارك «دار النهار»، «مركز زيتونة» ودور شماليّة صغيرة. أما فلسطين، فتحضر من خلال جناح يضم أعمالاً حرفيّة «تشهد مبيعاً أكثر من الكتب» حسب إحدى المشرفات. أمّا جناح «وزارة الثقافة الأردنيّة» فالكتب فيه للعرض فقط: «هذه بروفة لمشاركتنا في معارض بيروتيّة» تقول مسؤولة أخرى. يبقى «المركز الثقافي الفرنسي» الغائب الأكبر، بعدما منعت الأوضاع الأمنيّة مشاركته في العامين الماضيين، وهذه السنة تواصل الغياب في المناخات الانتخابيّة، لتحرم المعرض من إحدى نقاط قوّته الأساسيّة.
يلاحظ الزائر خلال جولته أنّ الكتاب لا يملأ المساحة الشاسعة المخصصة له. طبقات الإهمال المتراكمة فوق رئتي عاصمة الشمال تحيل الثقافة إلى كماليات، فيما يتم التعاطي معها بوصفها خزاناً انتخابياً أو قنبلة أمنية موقوتة. أمّا صرح نيميار الممتد على مليوني متر مربع، فسيقفل أبوابه غداً، ويبقى كذلك حتّى دورة العام المقبل.