وضع الصحافة لا يبشّر بالخير، والحصار المفروض من السلطة يمنع الإعلاميّين من ممارسة مهماتهم بحريّة. التقرير الصادر عن «النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين» يأتي ليؤكّد هذا الواقع المأساوي
سفيان الشورابي
في 3 أيار (مايو) من كلّ سنة، تحتفل تونس باليوم العالمي لحرّية الصحافة، لكن بعكس ما يحصل في الدول الأخرى. إذ إنّ المشهد الإعلامي في بلد الطاهر الحداد يشهد سنوياً تراجعاً ملحوظاً، في وقت تسجّل دول العالم تطورات إيجابية في المجال الإعلامي وإن بتفاوت. وليس أدلّ على ذلك سوى تقرير حرية الصحافة الذي أصدرته أخيراً «النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين» وكشف عن حجم النكبة التي بلغها الإعلام التونسي بعد مرور أكثر من قرن على ظهور أوّل صحيفة مطبوعة في البلاد.
التقرير لا ينبئ بالخير، والإشارات جميعها تأتي لتضيف انتهاكات عدة للحريات الأساسية إلى سجلّ الحكومة التونسية السيئ. التاريخ سيسجّل لحكومة الرئيس زين العابدين بن علي تراجعات كبيرة في واقع الصحافة التونسية مقارنةً بما كانت عليه خلال فترة ما سُمّي بـ«ربيع الإعلام التونسي» (1985ـــــ1992).
ولعل أبرز ما يمكن نقله عن التقرير الذي أثار توتر الحكومة التونسية وأجبرها على دفع عدد من الصحافيين الدائرين في فلكها إلى عرقلة نشره، هو تخلّف الإطار التشريعي المنظم للقطاع الإعلامي في تونس. إذ تتسم «مدوّنة الصحافة التونسية» بطابع «زجري» وصبغة عقابية مفرطة من خلال تضمنها عدداً من القوانين التي تحدّ من الحرية وتضيّق على المهنة. على مستوى النشر مثلاً، يقيّد الإطار القانوني الحالي هذه العملية بصورة تعسّفية، وذلك وفق ما ورد في الفصل 13 من مدوّنة الصحافة. ويحتمل هذا الفصل التأويلات ويعطي صلاحيات لوزارة الداخلية للتنصل من منح الترخيص القانوني لأصحاب المطالب، كما لم يعط النص آجالاً محددة لتسليم هذا الترخيص ولا ما يترتب عليه من عواقب في حال عدم تسليمه. وعلى هذا الأساس، تبقى المطالب من دون رد، وهو الأمر الذي منحَ سلطةً مطلقةً في هذا الشأن إلى وزارة الداخلية التي تحتفظ فوق رفوف مكاتبها بما لا يقل عن 13 طلب ترخيص لمجلات وصحف وإذاعات.
وورد في التقرير نفسه أنّه خلال الأحداث الكبرى كما في الأوقات العادية، يواجه الصحافيون مصاعب كبرى للوصول إلى المعلومات: هي إما شحيحة أو محوّرة. وتفتقد تونس إلى قوانين أو إجراءات عملية تشدّد على حقّ الصحافي في الوصول إلى المعلومة ونقلها إلى الرأي العام بكل مصداقية وفي إطار القانون.
ورصد التقرير أيضاً عدداً من الانتهاكات والتجاوزات المادية والمهنية للصحافيين في عدد من المؤسسات الإعلامية، وهو ما انعكس على عملهم وعلى المناخ الاجتماعي داخل المؤسسات. وخلال السنة الماضية، تعرض عدد من الإعلاميين إلى جملة تضييقات بسبب ممارستهم مهماتهم. وتوزعت بين تضييقات أمنية ومنع من ممارسة المهنة وطرد تعسفي وحجز أدوات العمل. وشملت هذه التضييقات صحافيين عاملين في كل من راديو «كلمة» وقناة «الحوار التونسي» الفضائية وصحف «الطريق الجديد» و«الموقف» و«الخبير» ومجموعة صحف «دار الأنوار».
وجاء أيضاً أنّ معظم الصحف تتعامل مع الأحداث الوطنية بشكل انتقائي وموجّه وتضليلي، كما تواصل المؤسسات الإعلامية، وخصوصاً الرسميّة منها، تجاهلها أنشطة مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب المعارضة، وتنتهج أسلوب الانتقائية في تغطية النشاطات الوطنية وفق اعتبارات سياسية.
وعدّد التقرير شكاوى صحافيين ومسؤولين إعلاميين ومواطنين أثاروا مواضيع ذات علاقة بأخلاقيات المهنة. وأبرز هذه الشكاوى تتعلّق بسرقة مقالات تنشر على الإنترنت أو في صحف عربية أو أجنبية واستعمالها في وسائل إعلامية محلية من دون ذكر مصدرها. إضافة إلى مواصلة بعض الصحف حملات الشتم والقدح والذم ضدّ مواطنين تونسيين ناشطين في مؤسسات المجتمع المدني.
وفي ظلّ تنامي المشهد الإعلامي الإلكتروني وتعدّد القنوات الفضائية، بقيت الصحافة المكتوبة، وفق التقرير، مملّة ورتيبة ولم تتمكّن من اللحاق بقطار التطوّر الإلكتروني. ورغم بعض المحاولات النادرة الجادة في بعض الصحف، فإنّ الخارطة الإعلامية بصفة عامة ظلّت على حالها ولم تحقق القفزة النوعية المنتظرة. وتعتمد أغلب الصحف أساساً على برقيات وكالة «تونس أفريقيا» للأنباء الرسمية، ما حوّلها إلى نشرات رتيبة مستنسخة بعضها عن بعض، ويغلب التعليق الموجّه فيها على الخبر الموضوعي. كما ركّز التقرير على موضوع ملء صفحات الصحف بمواضيع عالمية على حساب الأخبار الوطنية. وهو ما لا يمثّل أولوية بالنسبة إلى القارئ التونسي. مثلاً جرى التعتيم على «أحداث منطقة الحوض المنجمي» (انتفاضة أهلية من أجل المطالبة بعدد من الحقوق الاجتماعية جنوب البلاد دامت ستة أشهر وجوبهت بالقمع والحبس) وأزمة «الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان» ومؤتمرات أحزاب المعارضة...
وتعتبر مؤسستا الإذاعة والتلفزيون الرسميتان من أكثر المؤسسات تشغيلاً للصحافيين في تونس، وهما في الوقت نفسه من أكثر المؤسسات الإعلامية التي تنتهك حقوق العاملين فيها. إذ تضمّان أكثر من مئة صحافي يعملون بصفة متواصلة ومنتظمة تتجاوز في بعض الأحيان عشر سنوات من دون عقود عمل ولا تغطية اجتماعية ولا أجور تتناسب مع تحصيلهم العلمي أو جهدهم اليومي. وعلى الرغم من التقدّم الجريء الذي سلكته بعض البرامج التلفزيونية في قناة «تونس 7» الحكومية، وخصوصاً في برامج تلفزيون الواقع، إلا أنّ سعيها إلى كسب أكبر عدد من المشاهدين أسقطها في الإثارة. وهو ما يدفع إلى التساؤل عن سبب تمتع شركة إنتاج خاصة، تابعة لأحد أقارب الرئيس التونسي، بعينها بهذا الهامش الذي لم ينعكس على بقية أداء القناة، ما يدعو إلى التخوّف من أن يكون ذلك بداية خصخصة مقنعة لهذه المؤسسة.
ولم يختلف وضع النقابة عن وضع صحافييها. إذ كانت في مرمى نار الحكومة التونسية، وتحديداً وزير الاتصال رافع دخيل الذي عمل جاهداً على محاصرة أنشطتها وعرقلة عملها. وباستثناء بعض الجلسات المحدودة التي انعقدت في وزارته ولم تحقّق أي مكسب للصحافيين، فإنّ باقي الوزارات والمؤسسات الرسمية لم تكلّف نفسها حتى عبء الرد على مراسلات النقابة. واللافت هنا أنّ كلّ المؤسّسات الإعلامية لا تغطّي أنشطة النقابة ولا جلساتها العامة، فيما تفتح المجال واسعاً أمام كل من يحاول الإساءة إلى صورتها والنيل من مصداقيتها. هكذا، يحتفي جمهور الصحافيين بعيد حريتهم المسلوبة، في ظلّ سلطة تريد منهم أن يكونوا مجرد موظفين يخضعون للتعليمات، وتتسلح بقوة رجال الأمن وظلم القوانين.