قصيدة تستوي بالحذف وتسخر من أوهام التاريخ

أعلن مبكّراً ضجره من نتاج الستينيات. قصيدته تقوم على النبرة الخافتة والكثافة، والخلط بين اليومي والتأمل. بعد صدور «أحجار البهت» في رام الله، وقفة مع الشاعر الذي أفلت من «نفوذ» درويش، ويقيت قصيدته، رغم ذلك، مدينة بالكثير لشاعر فلسطين الأكبر

حسين بن حمزة
علاقة زكريا محمد (1951) بالشعر هي مسيرة حافلة بالتجنُّبات. لا نكاد نعثر على فرق حاسم بين مسيرته والتجنُّبات التي صنعتها. كأنّ التجنُّبات كانت أسلوباً وتقنية وبحثاً في الكتابة، أو كأنها كانت الكتابة ذاتها. إنها فنٌّ كامل. منذ البداية، حاول هذا الشاعر الفلسطيني أن يُبدي خصوصية في مسعاه الشعري. وحين أصدر مجموعته الأولى، اختار لها عنوان «قصائد أخيرة» (1982)، مخالفاً البدايات التقليدية التي يطيب للشعراء أن يسمّوها «قصائد أولى». لكنّ ضديّة تلك الباكورة كانت، في آن، إعلان ضجرٍ مبكر من أغلب الشعر الذي كان يُكتب من نجوم تلك الفترة ومكرَّسيها. هذا الضجر انتبهنا لاحقاً إلى أن عدداً من الشعراء تقاسموه في ما بينهم. بهذا المعنى، يمكن فهم الصلات المتينة بين تجارب بسّام حجار وأمجد ناصر ونوري الجراح ومنذر مصري... لم تكن عناوين بواكيرهم تنسجم مع الجَلبة العالية والمذاق الدرامي لأغلب عناوين نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات.
الأرجح أنّ كثيرين لا يزالون يتذكرون قصيدة زكريا محمد «الملك» الشبيهة ببيان شخصي وشعري: «هنا/ أربّي كلابي/ وأطعمها مشمشاً وحليباً/ وآخذها في المساء إلى البحر/ هنا/ كالملوك المُقالين/ شمسٌ تناور فوقي/ وندامى لصوص/ وأضغاث حلم/ ههنا/ فكرتي تتعفَّن تحت الرطوبة والشمس/ ويسيل نبيذي على لحيتي/ وكلابي تجرجرني في المساء إلى البحر/ أطواقُها في يدي/ ويدي تستجيب لها وتغرقني في المياه». مزاج زكريا كان جزءاً من مزاج أوسع. إنه يقرّ بأنّ عنوان باكورته جاء «نكاية بأصحاب «قصائد أولى» ورغبة بالاختلاف عنهم». ويوافق على أنّ «الضجر علامة كل تغيّر شعري. الضجر من استخدام معين للكلمات والعبارات. الضجر من إيقاعات وموضوعات محددة». ويؤكد أن قصائده لم تكن تتحمّل الروح البطولية القوية: «أبطال قصائدي كانوا يبدون عائدين من الحرب لا ذاهبين إليها. لم أكن أحتمل كلمتي برتقال وزيتون. اقتلني إذا أردت، لكني لن أستطيع استخدامهما».
تجنُّب الدراما المائعة والجلبة العالية، أكسب صاحب «أشغال يدوية» (1990) لغةً دقيقة ومصفَّاة ومضبوطة، وقاده إلى قصيدة خافتة راحت تتربَّى في الصمت والتأمل والتفلسف الداخلي. لكنَّ الصمت والخفوت جعلاه مقلّاً في الكتابة. نسأله إن كان الشعر الجيد قليلاً دوماً، وهل لهذا علاقة بمزاجٍ شخصي؟ يقول: «الشعر في نظري صرخات متقطعة مثل صرخات طائر على غصن. لا يستطيع هذا الطائر أن يصرخ بلا انقطاع. لا بد من صمتٍ يسبق الصرخة أو يليها. الصمت جزء أصيل من الشعر. هناك شعراء يكتبون الشعر يومياً، وهذه طريقة أخرى».
هويته كفلسطيني وضعته أمام تجنُّب من نوع آخر. كان زكريا يدرك صعوبة أن يتخلَّص أي شاعر فلسطيني من الحضور التقليدي للقضية في شعره. لهذا فعل كل شيء كي يشبه نفسه وتشبه قصيدته نفسها أيضاً. وكان هذا يعني، أساساً، النأي بقصيدته عن تأثير محمود درويش ـــــ شاعر القضية ونجمها الأوحد. بالنسبة إليه، كان لهذا النأي تأثيران مزدوجان. نجا زكريا من «نفوذ» درويش الشعري، لكنّ قصيدته ظلت مدينة لشاعر فلسطين الأكبر. كيف؟ يقول صاحب «ضربة شمس» (2002): «كان تأثير درويش كبيراً. هو احتل الطريق برصيفيه، وأرغمني على البحث عن طرق أخرى. استصلحتُ أرضاً وعرة في التلال، لأنّ درويش احتل كلّ الأرض الصالحة للزراعة. وكان على الشعراء الفلسطينيين إما أن يعملوا فلاحين عنده، أو يذهبوا إلى الأرض البور للبحث عن بقعة خاصة بهم واستصلاحها والعيش على ما تنتجه. أنا ذهبت إلى الأرض البور. أرغمني محمود على ذلك. لهذا، فإن له فضلاً في كل حبة بندورة حمراء قطفتها في التلال الوعرة».
من جهة أخرى، يشير زكريا إلى أنّ هذا الافتراق حدث في زمنٍ سابق: «حالياً، أغلب الشعر الفلسطيني ليس فلسطينياً إذا أردنا محاكمته بمنطق الستينيات والسبعينيات. حتى دواوين درويش الأخيرة باتت مختلفة عن شعره السابق الذي كنا نتجنَّبه». النبرة الخافتة، الميل إلى الكثافة والاقتصاد والخلط بين سرعة اليومي وبطء التأمل الفلسفي، صفات جوهرية في شعر زكريا محمد. مجموعته الأخيرة «أحجار البهت» (مؤسسة فيصل عبد الهادي ومؤسسة الناشر للدعاية والإعلان) الصادرة في رام الله حيث يقيم، تقوم على الصفات ذاتها. لنقرأ: «شجرة/ تحت الشجرة يقيلُ رجلٌ وقطيع أغنام/ يصحو الرجل متأخراً عند الغروب/ فلا يدري من هو/ ولا لمن القطيع/ ولا إلى أين سيقوده بعد القيلولة الطويلة». قصائد كهذه مصنوعة من الحياد اللغوي والتأمل الداخلي تبرِّر للشاعر القول: «أعتبر نفسي تلميذاً للمعري الذي حاول تخليص الشعر من مهيّجاته ومثيراته، مفضِّلاً لشرارة الشعر أن تنقدح من دون كل ذاك الزبد. لعلني أردتُ أن أكون مثله... أن تكون فكرةٌ بلا مهيِّجات مداراً لقصيدتي». بهذه الروحية، يستطيع القارئ أن ينصت إلى تجربة زكريا ويضعها في مكانها اللائق، عند المنعطف الذي صنعه مع أبناء جيله. حيث القاعدة أن الشعر لا يستوي بالكتابة، بل بالحذف.