نجوان درويشثمة سلالة من الشعراء والمثقفين يضيء معدنهم كلما تردّت ثقافة محيطهم وتهافت أقرانهم. زكريا محمد واحد من هؤلاء، أحد أعمق الأصوات الفلسطينية في لحظة يُشتكى فيها من قلة الأصوات الشجاعة على الساحة الثقافية. لا يمكن التفريق بين زكريا وشعره وسائر كتاباته: من الشعر الذي أصدر فيه خمس مجموعات «قصائد أخيرة»(1981)، «أشغال يدوية»(1990)، «ضربة شمس»(2003) «الجواد يجتاز أسكدار»( 1994)، «أحجار البهت» (2008) إلى الرواية «العين المعتمة»(1996) و«عصا الراعي»(2003)... إلى أطروحة غير مسبوقة في التاريخ الفلسطيني: «نخلة طيء؛ كشف لغز الفلسطينيين القدماء» (2003) ودراسة مبتكرة في تاريخ أديان العرب قبل الإسلام: «عبادة إيزيس وأوزيريس في مكة الجاهلية»(2009)، وكتابات في النقد: «في قضايا الثقافة الفلسطينية»(2002) «ديك المنارة» (2003). هذه الإصدارات وغيرها في المسرح والرحلة وأدب الأطفال، هي زكريا محمد وهي أقنعته أيضاً. أقنعة لاتّصال أعمق مع الذات والكون. إن عرفته عن كثب، فستجد أسباباً كثيرة كي تحبّ هذا الشاعر. تثير الإعجاب محافظته على صدقية فنية وأخلاقية في واقع يكاد يكون بلا صدقية. أن ترجع إلى فلسطين في زمن ثقافة أوسلو (بعد 1993) وتظلّ مثقفاً محترماً، ليس بالأمر القليل. لا بد من أنّ زكريا نجا من عشرات الفخاخ حتى وصل إلى لحظته هذه.
كان من الصعب جداً أن يُحسب على ثقافة أوسلو. وفي لحظة الاحتكام العسيرة، كان زكريا في صفّ المقاومة بهدوء واع وبلا ضجيج. ولما اقترب من «السلطة الثقافية» (سنواته مع محمود درويش سكرتيراً لتحرير مجلة «الكرمل»، أو تحريره لـ«دفاتر» المجلة التي كانت تصدرها «وزارة الثقافة الفلسطينية»)، فإنّه حافظ على مسافة حمته من الإصابة بأمراضها. بعد استقالته من «الكرمل»، وجدناه محرراً لمجلة جديدة للشباب اسمها «فلسطين الشباب». ولعل الجيل القادم من الكتّاب الفلسطينيين سيكونون من الذين نشر لهم زكريا أول نصوصهم. ولما شقّت المجلة طريقها، استقال منها، دائماً بطريقة تبدو لنا مفاجئة ومن دون «أسباب». لا يطيل زكريا المكوث في بيت أو شغل. كلّما شعر بأنّه استقر أكثر من اللازم، يسارع إلى ترك المكان. ليس المعرّي الجدّ الوحيد لقصيدة زكريا، فهي في عمقها وبساطتها تذكّر بشعر ثقافات آسيوية لبلدان الصين واليابان وكوريا... لكنّها هنا حكمة معاصرة مشتبكة مع الطبيعة وطقوسها وأقنعتها ودراما حياة الإنسان. قصيدة تأملية حارّة، بنبرة ساخرة من أوهام التاريخ والواقع، ومن الشاعر أحياناً... ذلك الذي يبدو مثل «شجرة حمقاء أخرى تفكّر بالمطر».