الصبي المجنّد انتُزع من براءته ليصبح شاهداً على أهوال الحرب الأهليّة في سيراليون للسيطرة على مناجم الماس. مذكّراته المعرّبة أخيراً، وثيقة نادرة عن فظاعة استخدام الأطفال في الصراعات المسلّحة
محمد خير
«رأينا رجلاً عجوزاً جالساً في مقعد وكأنه نائم، كان في رأسه ثقب طلقة، وأمام المدخل رقد جسدان لرجلين أعضاؤهما التناسلية وأطرافهما مقطوعة بمنجل...». كلاّ، لسنا في صبرا وشاتيلا، نحن في أفريقيا السمراء حيث القسوة كما في كل مكان، مع فارق وحيد: لا كاميرات تسجّل أو توثّق. نحن في سيرياليون (افريقيا الغربيّة) مسرح الحروب الأهليّة التي لا تنتهي (بتواطؤ أوروبي سافر) للسيطرة على المناطق الغنيّة بالماس.
من هنا أهمية مذكرات إشمائيل بيه الشاهد على حرب أهليّة شرسة طوال التسعينيات، وكان ضحيّتها وطرفاً فيها معاً. في «الطريق الطويل ـ مذكّرات صبي مجند» («دار الشروق» و«مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم» ـ ترجمة سحر توفيق)، يروي القصة المرعبة التي خاضها ضحيةً، ثم طفلاً مجنداً وقاتلاً لا يرحم. الراوي مولود عام 1980، شهد من الموت ما لم تشهده أجيال كاملة... عندما بدأت العائلات الهاربة المرور في بلدة إشمائيل الصغير، كان أفرادها يروون صنوف القتل والوحشية التي شهدوها في قراهم من المتمرّدين. كان الناس في قرية الراوي يعرضون استضافة اللاجئين، لكنّ أولئك رفضوا لأنّ الحرب «ستصل إلى بلدتنا في النهاية». كان إشمائيل تلميذاً كوّن مع رفاقه فرقة راب.
في سنّ الـ12، يقرر وشقيقه جونيرو وأعضاء الفرقة، السفر، مشياً، إلى مدينة ماترويونج. الرحلة لم تنته، وثيابهم التي ملأوا جيوبها بشرائط الموسيقى، أنقذتهم من الموت مراراً. لكنها كانت نجاةً إلى حين. مقاتلو الموت كانوا يلاحقون القرى التي يرتادها الرفاق الصغار... والقلائل الذين عادوا للبحث عن الأهل المتروكين لم يُسمع عنهم والفتى إشمائيل فقد في الطريق أخاه، ثم لم ير عائلته برمتها مرة أخرى.
هاجمت عناصر «الجبهة الثورية المتحدة» قرى شرق سيراليون متجهة إلى العاصمة فريتاون، لإطاحة حكومة حزب «مؤتمر كل الشعب» الفاسدة. بعدما حاصر المتمردون العاصمة، تستقدم الحكومة مرتزقة لمساعدة الجيش ضد المتمردين. كالعادة، يختلط الحابل بالنابل وتختفي شعارات الثورة والتغيير، لمصلحة الانتقام ومعارك الشوارع التي أصبحت معارك «غابات». إنها الحرب الأهلية تتكرر: ينسى الجميع المذنب والبادئ، ولا يبقى سوى القتل والنهب والاغتصاب: «كان سيدو قد صعد إلى الغرفة العلوية لجلب الأرز الباقي هناك لرحلتهم، وأثناء ذلك اقتحم الثوار المنزل (...) كانت أم سيدو تبكي، وتعتذر لبناتها لأنها جاءت بهن إلى هذا العالم ليصبحن ضحايا لمثل هذا الجنون... وبعدما اغتصب الثوار الأخوات مراراً، جمعوا ممتلكات العائلة وجعلوا الأب والأم يحملانها، وأخذوا البنات الثلاث معهم».
سيدو الذي تعرف عليه إشمائيل أثناء الهروب، نجا من اقتحام الثوار بيته، لكنّه سيموت لاحقاً في الغابات المظلمة. الطبيعة الوحشية والحيوانات المفترسة لم تكن رفقة طيبة لرحلة إشمائيل المذعورة... كان يلتقي أطفالاً ويفقدهم مجدداً وأهالي القرى يتوجسون من الأولاد الأغراب خوفاً من أن يكونوا مسلحين، والمتمردون يقتلون من دون تمييز. والذي يعتقلونه، يشمون جسده برمز الجبهة الثورية، فيصبح ممنوعاً من الهرب، فالجيش سيطلق عليه النار فور رؤيته، والمتمردون سيقتلونه إذا عثروا عليه.
في غياب أي قانون، تصبح روح كل هارب مسؤوليته الشخصية. القرية التي وصلها إشمائيل أخيراً كان يحرسها رجال الجيش. بعدها، حاصر المتمردون القرية، فقرر القائد جمع كل من يستطيع حمل السلاح. بين أولئك كان إشمائيل ورفيقاً في الـ11، وثالثاً في السابعة كان يقع مع بندقيته كل قليل!
الأخيران قتلا في أول معركة، بينما أبدى إِشمائيل مهارة حربيّة، فصار لاحقاً أحد أبرز المقاتلين. تدريجاً، سيكتشف أن لا فارق بين «أخلاق» الجيش والمتمردين. الوحشية هي نفسها. وكما جُنّد بطلنا، يُسرّح فجأة لحساب برنامج تأهيل تحت إشراف الأمم المتحدة. هناك، في سنّ الـ15، يكتشف هول غسيل الدماغ الذي تعرض له، والمجرم الذي صاره. لكن القصة ما زالت في أوّلها. بعد ضغوط دولية لانتخاب حكومة مدنية، يتحالف المتمردون مع العسكريين لإطاحة الحكم المدني، وتصبح سيراليون وطناً للرعب. إلى أين يذهب إشمائيل والطرق مليئة بالمتمردين الذين أصبحوا جزءاً من الحكومة؟ وهم لهم عند إشمائيل «الجندي السابق» ألف ثأر وثأر. كتاب مروّع ومفيد، ترجم إلى 22 لغة محققاً نجاحاً لافتاً.