ثنائي يعرف ما يريد، وعمل لافت بتماسكه الشكلي وبلاغته المتقشّفة وخصوبة الرؤية. «في تلك الأثناء»، أو الرقص بمعناه الأصفى...
بيار أبي صعب
لحظات نادرة من الرقص الصرف. هكذا يمكن تلخيص عمل الثنائي خلود وخالد ياسين الذي يقدّم حالياً في بيروت، بعنوان Entre Temps أو «في تلك الأثناء». لكن الترجمة العربيّة تبتعد عن العنوان الأصلي الذي يستبطن علاقة بالزمن والإيقاع... في لحظة مشهديّة بين برهتين أو زمنين.
بعد تجربة أولى بعنوان «في ليلة من آذار» (٢٠٠٧) مضت بعيداً في اختبار العلاقة بين الحركة والزمن والفضاء والبعد الثالث، يعود الأخوان ياسين بعمل أكثر نضجاً وشفافيّة وتماسكاً... وقدرة على الوصول إلى الجمهور. يشتغل العرض على العلاقة بين الحركة والزمن والنغمة والإيقاع والشعور. يشتغل على الموسيقى ـــــ الجسد إذا جاز التعبير. الإيقاعات المألوفة المتعمّدة أحياناً (موسيقى العمل من تأليف خالد ياسين) تنذر بخطر الكليشيه (على طريقة «رقّصني يا جدع»!)، فإذا بها حقلاً خصباً لكتابة كوريغرافيّة جديدة مفتونة بالأسلبة والتجريد. يبدو الجسد فيها كأنّه يملي نزواته على الإيقاع، أو كأنّه يعزف الموسيقى ويفرض وجهتها ويأخذها إلى حيث يريد... حتى التماهي.
خلود ياسين تولد أمامنا من جديد. الممثلة والراقصة اللبنانيّة تخلّصت من المشاغل الزائدة لتركّز على فكرة محوريّة واحدة، من دون أن تفقد ذرّة من راديكاليّتها المعهودة. لغتها الحركيّة تصفّت وجسدها تخفّف، بات أكثر ليونة وسلاسة ودقّة. هذا السولو الذي يبدو ثمرة عمل وبحث طويلين مع أخيها وشريكها، ترقصه بخفّة غير متوقّعة، وفي الآن نفسه بقوّة عصبيّة طالما ميّزت حضورها على الخشبة. أمور كثيرة باتت مضمرة هذه المرّة، وانتقلت خارج حقل القول أو الرؤية، لنجدها مكثّفة (مستترة) في كتابة كوريغرافيّة واضحة ومركّبة وقاطعة في آن معاً.
تلك الكتابة اشتغلت عليها مع خالد الذي نعرفه موسيقياً وعازف إيقاع... ونكتشفه هنا مصمّم رقص يتعامل مع هذا الفنّ على أساس علاقته الوثيقة بالإيقاع. خالد غائب عن المسرح هذه المرّة، حاضر بعزفه، بالموسيقى التي ألّفها للعرض، وفيها مقطوعات للعود للمرّة الأولى في مسيرته الفنيّة. من تعاون الراقصة والموسيقي، وتقاطع أدوارهما، يتكوّن فضاء خاص تضيع فيه الحدود الفاصلة بين الحركة والنقرة/ النوطة، حتى يصبح من الصعب معرفة أيهما تتوالد من الأخرى وتكمّلها وتجسّدها.
بكثير من المينيماليّة والاقتصاد في الحركات، تحوّر الرؤية الكوريغرافيّة المفردات المستقاة من الرقص الشرقي أو الفلامنكو أو الباليه جاز... توظّفها في قالب جديد. يسعى الفنّانان إلى تفكيك اللغة الراقصة بحركات ميكانيكية بسيطة: اليد والمعصم والساعد والذراع والرأس والرقبة... أو بتكرار صوفي يدعو إلى الانخطاف. ثم يجمعان الأجزاء في جمل سلسة ومفاجئة، خطيّة ودائريّة وتصاعديّة. الجسد عمودي غالباً، لا يلجأ إلى الأفقيّة أو يفترش الأرض، إلا في مشهد عابر. والراقصة أشبه بكاهنة تؤدّي طقوساً طوطميّة غامضة. أشبه بمحارب ساموراي، وحدها في مواجهة العالم. وحدها، إلا من ظلال ترافقها في طقوسها، تنظر خلود إلى ظلّها بحثاً عن التناغم والتفاعل ربّما. ترقص معه كما نرقص مع صورنا وأطيافنا البعيدة.
هذه الرؤية يحتضنها قالب سينوغرافي هندسي، يعتمد على الإضاءة لتقطيع الفضاء إلى مستويات، ولعزل الجسد أو الوجه أحياناً (فادي يني تورك). الإضاءة عنصر حيويّ في العمل، يؤكّد خياراته البصريّة والحركيّة المختلفة. تزرع أرضيّة المسرح بخطوط متقاطعة، وترسم الجدران المحيطة بأشكال هندسيّة ملوّنة تتهادى فوقها الأخيلة كما في مسرح الظلّ...
قد يميل النقّاد إلى تصنيف Entre Temps الذي يمزح بين التقليدي والكلاسيكي والحديث والتجريدي، في خانة «الرقص المعاصر». في الحقيقة، الرقص ما بعد الحديث ـــــ أو الـ«بوست مودرن دانس» ـــــ ليس بعيداً عن هذه التجربة التي فاجأنا بها الثنائي خلود وخالد ياسين.


العرض الثالث والأخير الليلة عند الثامنة والنصف ــــ «مسرح مونو» (بيروت). للاستعلام: 01/202422