المؤلف النمسوي الشهير في المئوية الثانية لرحيله

عاش حياة صاخبة وغنيّة. أمّن العبور من باخ إلى موزار، ثم مهّد الطريق مع هذا الأخير لبيتهوفن. ربّما لم يتألّق بما فيه الكفاية في فنّ الأوبرا والكونشرتو، لكنه أبدع في رباعي الوتريات والسوناتة والسيمفونية، إلى حدّ أنها اقترنت باسمه مع أنّه ليس مبتكرها. وقفة مع فرانز جوزف هايدن الذي يحتفل العالم بالذكرى المئويّة الثانية لرحيله

بشير صفير
شخصيّات عدّة يحتفي بها عالم الموسيقى الكلاسيكية الغربية خلال عام 2009. هذه السنة أيضاً، تصادف الذكرى المئوية الثانية على رحيل المؤلف النمسوي الشهير فرانز جوزف هايدن. في الواقع، يصعب فعلاً الإضاءة على حياة «أب الحقبة الكلاسيكية». إذ تبدو تلك المسيرة الصاخبة على المستويَيْن الشخصيّ والفنيّ عصيّة على التلخيص أو الاختزال مهما حاولنا تكثيفها.
ولعلّ أجمل وأحقّ ما يمكن قوله عن هايدن (1732 ـــ 1809) هو أنّه «خرق حظر» موزار (1756 ـــ 1791) كما فعل شوبرت (1797 ـــ 1828) مع بيتهوفن (1770 ـــ 1827) في الحقبة اللاحقة، وفيفالدي (1678 ـــ 1741) وهاندِل (1685 ـــ 1759) مع باخ (1685 ـــ 1750) في الحقبة السابقة. هذه النظرة البانورامية التقويميّة التي تغطّي الفترة التأسيسية (بالمعنى الجمالي فقط) الأكثر غزارة في تاريخ أوروبا، يمكن تلخيصها بالتالي: من جهة، فإن مئات المؤلفين الذين عاشوا في تلك الفترة «ظَلَمَهم» ثلاثة عباقرة. لقد قبَعَت آلاف المدوّنات في أدراج المكتبات والمتاحف الأوروبية قروناً، فيما كانت مؤلفات الثلاثي الجرماني باخ ــــ موزار ــــ بيتهوفن تنتشر في أقطار الأرض، وتبحث عنها الآذان كغذاء يكاد يمثّل بديلاً من قوت الجسد. في السنوات الأخيرة من القرن الماضي، نبَشَ بعض الموسيقيين «الفضوليّين» أسماءً لم يَسمَع بها من قبْل إلا أصحاب الاختصاص، وحوّلوا كتاباتها الموسيقية إلى مادة مسجَّلة. باعت هذه الأسطوانات القليل علماً بأنّها حوَت روائع كثيرة في بعض الأحيان. لكنّ الصدارة في السوق بقيَت وستبقى دائماً لـ «الثالوث المقدَّس». باختصار: غطّى باخ بإبداعه على معظم معاصريه، وكذلك كانت الحال بالنسبة إلى موزار وبيتهوفن مع معاصريهما.
من جهة ثانية، وعطفاً على ذلك «الظلم» الذي تحدثنا عنه، لا يمكن اختصار الحقب الثلاث، أي حقبة الباروك والحقبتَيْن الكلاسيكية والرومنطيقية، بالثلاثي الشهير. هكذا لا يمكن الكلام عن الحقبة الوسطى من دون البدء بموزار. لكن ليس لهذا الكلام أي معنى إذا لم يلِه أو حتى يرافقه كلامٌ عن هايدن. وأكثر من ذلك، إن الكلام عن الأخير لا ينقص حرفاً عن الكلام عن موزار؛ الفرق فقط يكمن في نوعيته: المفردات الكبيرة، إنّما البشرية لـ «أب الحقبة الكلاسيكية». المفردات الصغيرة، إنّما الإلهية، لـ «مَلِكها».
من هنا، يمكن القول إنّ هايدن استطاع بثقله (وعمره المديد، وجمال إنتاجه وغزارته) حجْز مكانٍ له في هذا الميدان التاريخي/ الموسيقي الصعب الذي أطبق عليه طيف موزار بإحكام. لكن السؤال (الميتافيزيقي) الأهم هو: ما الفرق بين الرجلين؟ الجواب يمكن استنتاجه من مقولتَيْن. قال هايدن إنّ «أصعب ما في الموسيقى هو الصمت». قال موزار: «الموسيقى الحقيقية تكمن بين النوتات». هكذا أشار هايدن إلى اللاصوت في الموسيقى أو العدم الصوتي. لكنّ إشارته الموسيقية الفلسفية هذه، يصعب فهْمها وتطبيقها أيضاً. أكاديمياً، الصمت يُعتبَر نوتة موسيقية. فيما عِلم الموسيقى، لم يشِر (بعد؟) إلى ما يكمن من موسيقى بين النوتات!
ما الذي خلَّد هايدن؟ عاش هايدن حياة صاخبة وغنيّة. تتلمذ على يديه (افتراضياً طبعاً، لكن عملياً أيضاً) موزار وبيتهوفن. ذاع صيته في النمسا، كما في أنحاء أوروبا، وخصوصاً في لندن وفرنسا. أمّن العبور من باخ إلى موزار، ومهّد الطريق مع الأخير لبيتهوفن. لم يبتكر أشكالاً، لكنه أبدع في بعضها إلى حدّ أن «براءة الاختراع» النهائية سُجِّلت باسمه. وهذه الأشكال أصبحت الأهم والأكثر جاذبية لمعاصريه وورثته وهي: رباعي الوتريات والسوناتة والسيمفونية. لكنه من جهة ثانية أخفق في فنّ الأوبرا والكونشرتو (أقله أمام موزار).
ارتبط اسم فرانز جوزف هايدن بالأمير نيكولاوُس إستيرازي، إذ عمل تحت وصاية الأخير لسنوات... وضدّه سجّل أول حالة احتجاج في التاريخ أداتُها الموسيقى. في العام 1772، استعمل الأمير المهووس بالموسيقى سلطته المطلقة لإطالة «صيفيته» التي كان يرافقه فيها المايسترو وموسيقيّوه بعيداً عن عائلاتهم. تذمّر المستخدَمون فاشتكوا من الأمير عند معلمهم. دفاعاً عن حقوقهم، كتب هايدن سيمفونيته الـ45 المسماة «الوداع» التي أنهى حركتها الرابعة والأخيرة بتدوين صمت تدريجي، بحيث إن العازف الذي ينهي دوره يطفئ الشمعدان أمامه ويغادر القاعة. عُرِض العمل في حضور الحاشية، فسأل الأمير قائد الأوركسترا عمّا يجري. ولما استوضح، أمر فوراً بحزم الأمتعة والعودة إلى الديار في صباح اليوم التالي.
في الختام، قد يسأل سائلٌ إن كانت هذه السطور مخصّصة لموزار أمّ لهايدن. صحيح. لكن على ذمة عالم الموسيقى روبنز لاندُن: «[...] موزار يسيطر على كل شيء [...]». ولم يستثنِ قلمَنا!


من أعمال هايدن



السيمفونيات
أنتال دوراتي


كتب هايدن 104 سيمفونيات (العدد الأكبر في التاريخ). قلة من قائدي الأوركسترا قامت بتسجيل كامل لها، فانحصر الاهتمام إجمالاً بالسيمفونيات الباريسية الستّ والسيمفونيات اللندنية الـ12. أبرز تسجيل كامل لهذه الترسانة السيمفونية يحمل توقيع أنتال دوراتي.


الثلاثيات
بوزار تريّو


لا تبحثوا كثيراً عن تسجيل جيّد لهذا العمل الأنيق والحميم. الجواب هنا سهل جداً، وهو الأداء الأسطوري الذي قدّمه الـ «بوزار تريّو» والذي لم (وربما لن) يتخطاه أو حتى ينافسه أحد. إنها تلك العلبة (أو الجوهرة) السوداء التي تحتوي على تسع أسطوانات.

سوناتات البيانو
برندل وغولد


ترك هايدن كمّاً هائلاً من الأعمال للبيانو المنفرد من بينها السوناتات الـ62. في هذه الفئة أيضاً، قلة من العازفين أنجزت تسجيلاً كاملاً لها، والراحل وليد عقل (دون تحيُّز وطني) هو مِن أهم الذين قاموا بالإنجاز. أما جزئياً، فيمكن الاكتفاء باسمين: برندل وغولد.

«الفصول»
كارل بوم


إنه عنوان عملٍ من فئة الـ «أوراتوريو» ذي الموضوع غير الديني. يختلف عن «الفصول الأربعة» لفيفالدي، بحيث إنه يشتمل على الغناء بالإضافة إلى الأوركسترا. وفي ما يخص التسجيل الأفضل لهذا العمل، الخيار سهل أيضاً: القائد كارل بوم مع نخبة من المغنّين.

رباعيات الوتريات
«أماديوس» و«موزاييك»


تنطبق على هذا العمل القاعدة نفسها التي أشرنا إليها بالنسبة إلى السيمفونيات وسوناتات البيانو، لجهة التسجيل الكامل للعدد الكبير منها (82). في المختارات التي سجلتها بعض الفرق الرباعية الشهيرة، يمكن حصر الموضوع بين ما قدّمه رباعيّا «أماديوس» و«موزاييك».

الأوبرا
أرنونكور


لم يوفَّق هايدن في الكتابة الخاصة بفن الأوبرا، وهذه حقيقة كرّستها السنين. كتب حوالى عشرين عملاً في هذه الفئة، يمكن اختصارها بواحدٍ بعنوان «أرميدا» الذي اشتهر بعد التسجيل الذي قام به القائد الشهير أرنونكور وتوّجته الديفا بارتولّي.