شُغِف ستيف بيري بنظريّة «التوراة جاءت من جزيرة العرب»، فاستوحى منها عملاً أدبياً اكتسح المبيعات في الغرب... من هو جورج حداد المؤتمن على سرّ عمره قرون؟
أسامة العيسة
قبل سنوات، على مائدة عشاء في كامدن (جنوب كاليفورنيا)، سمع الروائي الأميركي ستيف بيري لأول مرة باسم كمال الصليبي. شُغف بتأويله لجغرافيا الكتاب المقدس، وقرأ أربعة كتب له، وزار بلداناً عدة، ليخرج برواية «لغز الإسكندرية» التي وصلت أخيراً إلى المكتبة العربيّة («دار الكتاب العربي» ـــــ ترجمة حسان بستاني). تعتمد الرواية على نظرية الصليبي بأن فلسطين ليست مسرح أحداث التوراة. ابتكر بيري شخصية جورج حداد، المستوحاة من المؤرخ والباحث اللبناني الشهير. لكنَّ حداد في الرواية هو فلسطيني يصبح على رأس مجموعة سرية مهمّتها الحفاظ على سرّ يُتداول منذ قرون، ويتعلق بمخطوطات في مكتبة الإسكندرية الشهيرة.
يفتتح الكاتب الأميركي روايته بموضوع النكبة الفلسطينية، وينسج رواية بوليسية ـــــ تصدَّرت قوائم أكثر الكتب مبيعاً ـــــ عن وجود مخطوطات لدى حداد، من شأنها سحب البساط من تحت الدعاوى الإسرائيلية بأنّ فلسطين أرض الميعاد. يُلاحق حداد من قوى عدّة، بينها طبعاً إسرائيل، إضافة إلى دول عربية والإدارة الأميركية ومجموعة سريّة تضم نخبة من أصحاب النفوذ في العالم.... ولكل طرف هدفه من تلك الملاحقة. إسرائيل مثلاً لا تريد أن تنشر نظرية تهدِّد وجودها، والإدارة الأميركية تريد وضع يدها على السرّ ليكون مصدر قوتها في الضغط على إسرائيل.
المثير في رواية ستيف بيري أنها تستوحي عقدتها من نظرية الصليبي المثيرة التي وجدت لها جمهوراً في العالم العربي، مع أنّه لا دليل على صحتها. وعلى الرغم من شيوعها، لم يفكر الروائيون العرب في استيحائها أدبيّاً. ويظهر الكاتب اطّلاعاً حسناً على موضوعه، مثل التناقضات التي بيّنها الصليبي في ترجمات القديس جيروم المعتمدة حتى الآن للعهد القديم من العبرية إلى اللاتينية. ولمستلزمات الحبكة الروائية، أضاف مراسلات مخترعة بين جيروم والقديس أوغسطين، وكلاهما من مثقفي السنوات الأولى لنشوء الكنيسة. تكشف الرسائل بين الاثنين، كما وردت في الرواية، أنّ ترجمة جيروم للعهد القديم من العبرية إلى اللاتينية «قد تكون عولجت لخدمة أهداف الكنيسة الناشئة». ويظهر بيري إعجاباً بالصليبي، إذ يقول إنّ التناقضات في ترجمة جيروم التي أشار إليها الباحث اللبناني «تطرح في الواقع أسئلة جذابة».
ويتطرق الروائي الأميركي في فصول كتابه إلى ما سمّاه تناقضات العهد القديم، مشيراً إلى أنها ليست جديدة، «وقد ناقش الباحثون هذه النقاط طيلة قرون. ورغم ذلك، فالتوراة هي مستند مرن على الأقل، ويبدو أنّ كل جيل يترك علامة فارقة في تفسيره له». وهذا ما ينطبق في الغالب على الكتب المقدسة للديانات التوحيدية جميعها. فالقرآن مثلاً «حمّال أوجه».
ويتبنى بيري، من دون أن يذكر، تأويلات الصليبي لمسلّة الملك ميشع التي عثر عليها قرب مدينة مادبا الأردنية، ويطلق عليها تسمية «النقش المؤابي». ويأخذ على الصليبي تطرّفه في تأويل العثور على المسلّة، وهي الوثيقة الأقدم لذكر مملكة السامرة، وذلك لخدمة نظريته. لكنّ الكاتب يستعين بذلك لترسيخ فكرة أنّ أرض الميعاد هي في الحقيقة في مكان غير فلسطين.
الرواية التي صارت الآن في متناول قرّاء الضاد، تستند تماماً إلى نظرية الصليبي (بغض النظر عن صحتها)، فيما يقوم مؤلفها بمناقشة نقديّة لطروحات القديس جيروم الذي أمضى أكثر من ثلاثة عقود في أقبية كنيسة المهد في بيت لحم، ليخرج بترجمته التي يطلق عليها حتى الآن «الترجمة المعتمدة». هذه النظرية العربيّة نالت صدىً أدبياً خلف المحيط البعيد، فيما تجنّب الأدب العربي حتى الآن التطرق إليها، أو طرح أسئلة تعتمد مثلاً على علم الآثار. كأنّ الأدباء العرب (ومواطنيهم) لا يكنون احتراماً كبيراً لهذا العلم، فيعمدون إلى تجاهله أو المشاركة في «نفيه» إلى الخارج. كم هي عديدة الأعمال الفنية الغربيّة التي جعلت من الآثار موضوعاً لها؟ أما في البلاد التي تفاخر بأنّها مهد الحضارات والأديان، فما زال الأدب بعيداً عن هذا الاهتمام...