محمود عبد الغني يعيش الأدب في الغرب ثورةً مستمرة، ما يبعده عن الغموض والاستقرار. هذا هو الراهن الفريد للرواية الغربية كما يصوّره «راهن الرواية الغربية، رؤى ومفاهيم» («دار أزمنة»، عمان ـــــ تعريب أحمد المديني). الكتاب مجموعة آراء ومداخلات لروائيين ونقاد وفلاسفة، أغلبهم مجهول لدى القارئ العربي. وما ذلك سوى تأكيد للطبيعة الفسيفسائية والحيوية والمتجددة للأدب الغربي. مفاهيم ورؤى كثيرة تتجدّد، بل إنّ معظمها اكتسب تعريفات جديدة. ضمير المتكلم (أنا) الذي تستعمله كثيراً السيرة الذاتية والتخييل الذاتي، لا ينبغي تعريفه. عليه أن يبقى لاشخصياً وحرّاً، كما ترى الكاتبة الفرنسية كريستين أنغو. والرواية تقدَّم على أنها جنس مفترس، نهم وكثير الفضول. إنّها جنس هجين بامتياز، مصنوع من مواد وأشكال وعوالم غير روائية في الغالب، كما أنها تقتحم لغات وخطابات وأنماط تمثيلات أخرى. والمعروف أن الرواية عانت، مند نشأتها، من «مشكل الهوية». والدليل أنّه يمكن أن نجمع في مرتبة واحدة أعمالاً متضاربة: «مولوي» لبيكيت، «الأحمر والأسود» لستاندال و«الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي. لكن كل كاتب يسبح في فلكه ويتخيّر تأويل جنس الرواية على هواه.
مصطلح رواية يفيد كل شيء ولا شيء في آن. إذ إنّ التفكير السليم لا يرى أنّ مشكل الهوية الذي تعاني منه الرواية، هو انحراف، أو عصاب ينبغي علاجه، بل إنّ الرواية ليست سوى صورة مصغرة لسعادة الحضارة حسب تعبير ألان بول.
ينقل الكتاب العديد من أسرار الروائيين التي تحدد رؤيتهم إلى الجنس الأدبي الذي يتعاطونه. الفرنسي فيليب فيلان، المقترن اسمه بالتخييل الذاتي، رفض تصنيف كتابه «السنة الأخيرة» بالرواية، لأنّ نصه يصوّر استشفاء والده واحتضاره. فهو يعتبر نصه حكياً ذاتياً وليس رواية. غير أن فيلان يسجل أن مصطلح التخييل الذاتي دخل قاموس المصطلحات الأدبية فجرى تأويله تأويلاً فضفاضاً، وحرفه عن معناه الأصلي الذي وضعه سيرج دوبروفسكي. هكذا، أصبح التخييل الذاتي بدوره مصطلحاً هجيناً. لم تُفلت من غربال الكتاب أي قضية تتعلق بعالم الرواية، مهما صغر شأنها. السويسري بيتر ستام ينزعج عندما يدخل مكتبة فرنسية ويجد رواياته مصنّفة في «رفّ الأدب الأجنبي». هو يفضّل ـــــ مثل إيتالو كالفينو ـــــ أن يوزَّع الأدب حسب جنسه لا حسب الجنسيات، إذ لا يمكن الحديث عن «أدب أجنبي». حدود الرواية هي حدود الأدب، هذا إذا أردنا أن نجعل هذا الأدب جسداً حياً. الرواية هي الجنس الأدبي الوحيد الذي لا يملك قواعد. هي ابتداع كامل لا ينفتح إلا في الفوضى والفضاءات الخالية من الإكراهات الرسمية أو شبه الرسمية. الرواية لم تستهلك بعد، ولم تستنفد إمكاناتها. إدمون غونكور وحده يتحمّل مسؤولية قوله إنّ الرواية استهلكت. من هذا المنطلق، اتسعت دائرة مناقشة الرواية وأهميتها. هناك مَن أعرب عن حذره من اعتبارها «جنساً أدبياً»، مثل لاكيس بروغيديس، رئيس تحرير المجلة الفرنسية L›Atelier du Roman. الرواية أكبر من كونها «جنساً أدبياً». إنّها ذلك النوع من الأدب الذي لا يكتسب قيمته إلا مع التفكير الجمالي. الرواية فنّ كامل، مثل الموسيقى، والرقص، والسينما... لذلك، فهي تبرهن، مع مرور الزمن، أنّها قادرة على الاستمرار في أصعب الشروط.